معجزة الاسلام _ الجزء الثالث           

 المحرر : هبه حسام

عمر بن عبد العزيز

" أرى دنيا يأكل بعضها بعضا !! "

في سنه الخامسة والعشرين اختاره الخليفة الأموي – الوليد بن عبد الملك – ليكون والي المدينة وحاكمها.

وتهللت المدينة لهذا الاختيار, فسيرة ابن عبد العزيز كانت تسبقه إلى كل مكان كالعبير.. 

ثم انه بما عرف عنه من فضل, يلي إمارة المدينة المنورة مكان أميرها المخلوع – هشام بن إسماعيل – الذي كان لظلمه ولشراسته موضع النقمة والاستهجان.

وإن الأمير الجديد ليبدأ حكمه بداية تألق من فورها الفارق العظيم بين طرازه, وطراز الولاة الآخرون ..

فبينما كان سلفه يحيط نفسه بطائفة من القساة الغلاظ الفاسدين, فيلقي في روع الناس – بمسلكه هذا – أن العملة الزائفة هي الرائجة.. جاء هذا الأمير المبارك فأعلن بمنهجه الجديد والمجيد أنه لا يصح إلا الصحيح!! وإن الخير, لا الشر.. والصدق, لا الملق .. والاستقامة, لا الزيغ .. هي دستور إمارته ومنهج عصره .. !!

ومن ثم بدأ – أول ما بدأ – باختيار عشرة من أئمة العلم والورع والفضل في المدينة, فجعلهم مجلس شوراه.

وهؤلاء العشرة هم : ((عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, وأبو بكر بن عبد الرحمن, وعروة, وأبو بكر بن خيثمة, والقاسم بن محمد بن حزم, وسليمان بن يسار, وخارجة بن يزيد بن ثابت, وسالم بن عبد الله, وعبد الله بن عامر بن ربيعة)).

وفي أول اجتماع له بهم قال لهم:

" إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه, وتكونون فيه أعوانا لي على الحق .. أناشدكم الله أن رأيتم عدوانا أو باطلا إلا أبلغتموني أمره, وأرشدتموني إلى الحق ".

ولقد كان في استهلاله هذا بتقدير أهل الصلاح والتقي والعلم, إنما يرفع للناس جميعا لواء الحياة الجديدة التي سيحيونها في إمارته, ويملأ أنفسهم بالسكينة والأمن ..

وراح يجعل من ولايته مثلا عاليا. واتسعت رقعة سلطانه, فصار واليا على الحجاز كله – مكة, والمدينة, والطائف, وما حولها.

وكأنما أراد القدر أن يجعل من إمارته هذه تجربة للمهمة الجليلة والعظيمة التي يدخرها له في يوم غد, يوم تنتهي إليه خلافة المسلمين, وحكم الدولة المسلمة من أقصاها إلى أقصاها..

وسنرى كيف تبلغ التجربة مداها البعيد من النجاح والتوفيق.. فابن عبد العزيز يضع كلتا عينيه على أخلاقيات الحكم وهكذا صار – وفي سرعة فائقة – مهوى أفئدة الناس وموضع حبهم الوثيق .. !!

والعلماء الذين كانوا لصلاحهم وترفعهم يتجنبون الولاة والأمراء, ولا يحملون لأكثرهم مودة ولا احتراما – راحوا يهبون إجلالهم الصادق لابن عبد العزيز, حتى إن ((سعيد بن المسيب)) وهو يومئذ من أعظم علماء المسلمين كافة, والذي كان يرفض طوال عمره أن يسعى لزيارة أمير أو خليفة, بل كان يرفض استقبال الأمراء ومجالستهم .. هذا العالم الورع الكبير نراه اليوم سخف في جلال مشيبه إلى دار الإمارة مرات ومرات ليلقى ((عمر بن عبد العزيز)), ويجالسه, ويحادثه..!!

راح الأمير الشاب ينشر بين الناس العدل والأمن, وراح يذيقهم حلاوة الرحمة وسكينة النفس, مخترقا ذلك الستار الرهيب الذي أحاط الأمويون به أنفسهم وملكهم صارخا بكلمة الحق والعدل, نائيا بنفسه عن مظالم العهد وآثامه, متحديا جباريه وطواغيته .. وعلى رأسهم ((الحجاج بن يوسف الثقفي)) ..

حدث يوما أن أناب الخليفة عنه في موسم الحج, طاغية العراق ((الحجاج)). وكان ((عمر بن عبد العزيز)) يمقته أشد المقت بسبب طغيانه وعصفه, فأرسل إلى ((الوليد بن عبد الملك)) – الخليفة يومئذ - يسأله أن يأمر (( الحجاج)) ألا يذهب إلى المدينة, ولا يمر بها, برغم أنه يعرف ما للحجاج من مكانة في نفوس الخلفاء الأمويين, وفي نفس ((الوليد)) بصفة خاصة. بل برغم إدراكه لما سيسببه موقفه هذا من إثارة مغايظ ((الحجاج)), الذي كان ذا مقدرة رهيبة على الانتقام لنفسه.

ولقد أجاب الخليفة طلب ((عمر بن عبد العزيز)) وكتب إلى ((الحجاج)) يقول:

" إن ((عمر بن عبد العزيز)) كتب إلي يستعفيني من ممرك عليه بالمدينة, فلا عليك ألا تمر بمن يكرهك, فنح نفسك عن المدينة " .

إن مقت ((عمر)) لرجل كالحجاج, وهو لم يتبوأ منصب الخلافة بعد, ولم يقع له ذلك الانقلاب الروحي الهائل الذي سنشهده حين يستخلف, ليكشف عن نقاء جوهره, وأصالة تقواه .

فالأمويون مدينون للحجاج إلى مدى بعيد ببقاء ملكهم واستمراره, واتساع رقعته .. وهو لهذا كان موضع إعجابهم, ورعايتهم.

ولكن, ماذا يعني رجلا كـ((عمر بن عبد العزيز)) من هذا الملك العريض, إذا كان قد قام واتسع على أكتاف طغاة كالحجاج ؟؟

إن موقفه هذا من الحجاج ومن نظرائه, يزكي إحساسنا بان القدر أراد لفترة الإمارة هذه أن تكون تجربة لغده العظيم. فـ((عمر)) يعلم – كما أسلفنا – أن تحدي ((الحجاج)) ليس أمرا سهلا, إذ كان الحجاج يومئذ قوي القبضة على الكثير جدا من مقادير الدولة ومصائرها.

وهو يعلم أن خلفاء بني مروان مستعدون أن يضحوا بكل عزيز وغال في سبيل الحجاج, وما داموا لا يزالون بحاجة إلى بطشه ودهائه ..

لكن ذلك لا يعني الرجل الأمين على مسئولياته .. إن الذي يعنيه ويتحتم عليه, هو أن يأخذ جانب الحق مهما تكن العقبات والعواقب..

إنه الآن يرى الأمور رؤية ذكية, وإن تجربة الولاية والحكم لتفيء عليه بصرا سديدا بما يجري حوله في الدولة الواسعة العريضة التي يسوسها الأمويون. وهو, وان يكن أميرا أمويا, لا يخدع بالمظاهر الفارغة عن الواقع والحقيقة, ولا يبيع دينه بدنيا عائلته وقومه..!!

إن الدنيا تموج من حوله بالأطماع والضلالات. إنها كما أرته تجربته, وكما وصفها هو : " دنيا يأكل بعضها بعضا " ..!!

ولو كان أمر هذه الدنيا بيده لقوم اعوجاجها.. ولكن ليس بيده الآن سوى إمارته..

وهكذا راح يعمر ويعمر, بادئا بالمسجد النبوي, فأعاد بناءه .. وأرسل بعثات التعمير في كل ارض الحجاز, يحفرون الآبار, ويشقون الطرق..

وفي حدود ولايته وسلطانه, رد للأموال العامة كرامتها وحرمتها, فلم تعد سهلة المنال لكل ناهب وخالس, كما لم تعد ألعوبة في يد كل مسرف ومترف, بل وجد كل درهم مكانه الحق والصحيح, لا يجاوزه ولا يتعداه..!!

وفتح أبواب المدينة للهاربين من ظلم الولاة في كل أقطار الدولة.. وحماهم من المطاردة, ووفر لهم الطمأنينة والأمن.

وفي العام الثاني من إمارته حدثت ظاهرة يكتفي المؤرخون بمجرد تسجيلها, على حين نرى فيها سببا وثيقا من أسباب التطور, بل الانقلاب الروحي الذي سيغمر شخصيته بعد حين. ففي ذلك العام, ولاه الخليفة إمارة الحج, ولم يكد موكبه يبلغ مكة حتى ألفى أهلها في قحط وعسر ومشقة, فما كان منه إلا أن دعا صفوة العلماء والصالحين, ومن شاء من عامة الناس أن يتبعهم, ثم خرج بهم إلى فضاء مكة, ثم وقف ((ابن عبد العزيز)) يدعو الله ويضرع إليه بعد أن صلى بهم صلاة الاستسقاء.. فإذا شيء يشبه المعجزات, إذ لم يغادر مكانه حتى هطل المطر على غير موعد, وفي غير ميقاته, ولم يصدق الناس إبصارهم التي راحت تحدق في سماء زرقاء ناصعة صافية, ليس فيها مزعة سحاب ..!!

وشهدت مكة في عامها ذاك خصوبة نادرة !!

على أية حال, فقد استغرقت الأمير مسئولياته, فابتعد عن الكثير من هواياته, وإن بقي له شغفه بالتأنق وطيبات الحياة.

رآه يوما أحد الزهاد يشتري ثوبا رافها بثمن غال ومرتفع, فقال له :

"أو ما كان الخير لك أن تضع ثمنه في جيوب الفقراء؟"

فلم يغضب ولم يستنكف, بل أجابه قائلا: " وهل رأيتني أهملت الفقراء..؟؟"

وهو جواب حق لا مراء فيه, فقد كانت أيام إمارته على المدينة والحجاز أيام رخاء وبركة, قلما شهد الناس مثلها.

ولم تشغله الإمارة عن تجويد فضائله, وتنمية تقاه, فعكف على العبادة عكوفا مثابرا, وكثيرا ما كان يحلو له أن يقضي الليل فوق سطح مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعبد الله ويدعوه ..

وحين صلى وراءه ((أنس بن مالك)) صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم), قال:

" ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من هذا الرجل "!!

كذلك لم تشغله الإمارة عن مواصلة التزود من العلم والفقه, فراح يثري عقله, ويملا بالعلم فكره, حتى صار في هذا المضمار حجة وإماما..

ووقف ((أبو النضر المديني)) يخاطب علماء المدينة يوما, فقال وهو يشير صوب ((عمر بن عبد العزيز)) :

" انه والله أعلمكم " ..!!

بل إن العالم الجليل ((مجاهد بن جبر)) الذي عرض القران على ((ابن عباس)) ثلاثين مرة.. والذي كان من الأئمة المعدودين, يقول عن ((عمر بن عبد العزيز)):

" أتينا ((عمر)) نعلمه, فما رجعنا حتى تعلمنا منه" !!

والإمام ((الليث)) يقول أيضا :

" ما التمسنا علم شئ, إلا وجدنا ((عمر بن عبد العزيز)) اعلم الناس بأصله وفرعه, وما كان العلماء عنده إلا تلامذة " ..!!

إن هذه الشهادة من أولئك الأقطاب الكبار, لترسم صورة باهرة للطريقة التي كان ((عمر)) ينمي بها فضائله العقلية والروحية. ترى إلى أي مدى يستطيع النظام العام للدولة الأموية أن يتحمل رجلا من طراز ((عمر)).. تكشف استقامته ونزاهته كل عورات ذلك النظام, وتفضح سواته ..؟!

إنه لن يصبر عليه إلا قليلا..وعلى الرغم من أنه أمير بارز في أسرة بني مروان الحاكمة, وعلى الرغم من أنهم جميعا, بلا استثناء, يهابونه ويحترمونه, فإنهم لن يطيقوا على منهجه الجديد المجيد صبرا


عدد الزيارات : 304

Share

مقالات ذات صلة :
  • معجزة الإسلام - الجزء الأول

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثانى

  • معجزة الاسلام _ الجزء الرابع

  • معجزة الاسلام _ الجزء الخامس

  • معجزة الاسلام _ الجزء السادس

  • معجزة الاسلام _ الجزء السابع

  • معجزة الاسلام _ الجزءالثامن

  • معجزة الاسلام _ الجزء التاسع

  • معجزة الاسلام _ الجزء العاشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الحادى عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثانى عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثالث عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الرابع عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الخامس عشر

  • المبرأة من السماء _ الجزء الاول

  • المبرأة من السماء _ الجزء الثانى

  • الامام الاعظم

  • رفيقة النبى فى الجنة

  • إمام دار الهجرة

  • من أهل بيت رسول الله

  • سيدة القصر

  • رجل اشترى الآخرة بالدنيا

  • المجادِلة

  • المزيد.......
    التعليقات :



    الاسم  
    البريد الالكتروني    
    العنوان   
    التعليق