معجزة الاسلام _ الجزء العاشر           

 المحرر : هبه حسام

عمر بن عبد العزيز

" فلذلك أبكي "

والآن, لننظر مرة أخرى !!

 

ها هو ذا في اليوم التالي, يتهيأ أخذا طريقه إلى السرادق الذي جرت العادة بإقامته حيث يجري فيه أول لقاء بين الخليفة الجديد وصفوة قومه . . ولا يكاد يضع قدميه على الطريق, حتى يرى موكبا فخما من الجياد المطهمة, تتوسطها فرس زينت كالعروس, ليمتطي الخليفة ظهرها الباذخ . . وفجأة تأخذه الرجفة, ويسأل مستنكرا:

" ما هذه ؟؟"

فيجيبونه:

" هذه جياد لم تركب قط, تعد لموكب خليفة جديد. .فينادي ((عمر)) : " يا مزاحم . . ضم هذه إلى بيت المال !!"

 

ويمضي على قدميه حتى يبلغ السرادق, فإذا هو فتنة ولا كإيوان "كسرى" . . فتعاوده الرجفة, ويسأل :

"ما هذا"

فيجيبونه: "إنه السرادق الذي يعد لاستقبال الخلفاء الجديد. . "

فينادي: "يا مزاحم . . ضم هذا إلى بيت المال !! "

 

ويدعو بحصير فيفرشه على الأرض, ثم يجلس فوقه في غبطة قديس !! .. ثم يجاء بالأردية المزركشة, والطيلسانات الفاخرة, فيسأل:

" ما هذا؟ "

فيقولون: " إنها ثياب الخلافة, يتحلى بها كل خليفة جديد. . "

فينادي: " يا مزاحم . . وهذه أيضا ضمها إلى بيت المال !! "

 

ثم تعرض عليه الجواري, ليختار منهن وصيفات قصره . . وهنا ينهض فزعا, ويقبل عليهن واحدة واحدة :

 

"من أنت . . ؟ ولمن كنت . . وما بلدك . . ؟ "

 

حتى إذا فرغ من سؤالهن جميعا, نادى : " يا مزاحم . . تول أمرهن جميعا, وارجع كل واحدة منهن إلى أرضها وذويها . . !! "

 

ألا فلندخر الكثير من عجبنا ودهشنا, وانبهارنا, فإننا مقبلون على عالم أهل وحافل بمثل تلك المعجزات. . !!

 

معجزات كانت ثمرة لأمرين التزم بهما في إخبات شديد:

أولهما: الولاء المطلق للدين . .

ثانيهما: الولاء المطلق للأمة . .

 

يدثر هذا الولاء وذاك, خوف بالغ من الله, يكاد تتصدع من مثله الجبال !!

يقول له بعض إخوانه, وقد أبهرهم عهده العظيم : " جزاك الله عن الإسلام خيرا . . "

فإذا هو يجيب: " بل جزى الله الإسلام عني خيرا "..!!

 

لقد حدد ولاؤه هذا طبيعة مسئولياته وفلسفتها, وراح يحملها في مزيج عجيب من الإرهاق والإشفاق.

الأرهق لنفسه, حتى لا يكاد يعطيها فرصة للتنفس . .

والإشفاق عليها أن يأتيها الموت قبل أن تفرغ من واجبها. . !!

 

وإذا كانت الشهور التسعة والعشرون التي عاشها خليفة تعتبر بالنسبة للتاريخ الإنساني كله بمثابة لحظة, فإن هذه اللحظة قد صارت من أعظم أزمان التاريخ تزكية للإنسان وتأثيرا في الحقيقة, إذا أعطت البشرية في مختلف عصورها وأديانها وأجناسها, المثل على ما تستطيع الإرادة الإنسانية أن تحقق من قداسة, وتصنع من إعجاز, إذا جعلت الله رقيبها, والحق كتابها . . !!

 

لقد حرص ((أمير المؤمنين)) على أن يدرك الناس أنه لا يأتيهم بجديد من المبادئ والنظم, فكل ذلك في قرآنهم ودينهم. إنما هو يأتيهم بروح جديدة, هي روح المسئولية الورعة الصادقة, يزكيها فهم سديد لجوهر الإسلام وأهداف شريعته. ولنبدأ معه بهذه الخطبة :

 

" ...لقد سن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخلفاؤه من بعده سننا, الأخد بها اعتصام بكتاب الله, وقوة لدين الله. ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها, ولا الركون لأمر خالفها . . من اهتدى بها, فهو المهتدي . . ومن استنصر بها. فهو المنصور . ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى, واصلاه جهنم وساءت مصيرا . .

أيها الناس, إنه ليس بعد نبيكم نبي, وليس بعد الكتاب الذي انزل عليه كتاب.

فما أحل الله على لسان نبيه, فهو حلال إلى يوم القيامة.

وما حرم الله على لسان نبيه, فهو حرام إلى يوم القيامة.

ألا واني لست بقاض, وإنما أنا منفذ . .

ولست بمبتدع إنما أنا متبع.

ولست بخيركم, إنما أنا رجل منكم, غير أني أثقلكم حملا "... !!

 

هذا الوضع لا يمنحه أي امتياز, بل انه حين يدعو الناس إلى العبادة ومكارم الأخلاق لا يقف منهم موقف المعلم ولا الواعظ, بل نراه يتهم نفسه بالتقصير ويضرع إلينا كي نصدقه. . هو الذي بلغ أرفع مستويات التقي والعظمة والهدى والكمال . .ها هو ذا يستقبل الناس خطيبا, فيقول بكلمات يخنقها النحيب والبكاء:

 

" وأيم الله, أني لأقول لكم هذه المقالة. وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلمه عندي. فأستغفر الله وأتوب إليه . ."

 

وتروي زوجته ((فاطمة بنت عبد الملك)) هذه الواقعة :

دخلت عليه يوما, وهو جالس في مصلاه, واضعا خده على يده, ودموعه تسيل. . فقلت له: " ما بالك, وفيم بكاؤك. . ؟؟ "

فقال:

 

" ويحك يا فاطمة. . أني قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت, ففكرت في الفقير الجائع, والمريض الضائع, والعاري المجهود, واليتيم المكسور, والمظلوم المقهور, والغريب, والأسير, والشيخ الكبير, والأرملة الوحيدة, وذي العيال الكثير والرزق القليل, وأشباههم في أقطار الأرض وإطراف البلاد, فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة, وإن خصمي دونهم يومئذ محمد (صلى الله عليه وسلم), فخشيت ألا تثبت لي حجة , فلذلك أبكي . . "  !!!


عدد الزيارات : 282

Share

مقالات ذات صلة :
  • معجزة الإسلام - الجزء الأول

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثانى

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثالث

  • معجزة الاسلام _ الجزء الرابع

  • معجزة الاسلام _ الجزء الخامس

  • معجزة الاسلام _ الجزء السادس

  • معجزة الاسلام _ الجزء السابع

  • معجزة الاسلام _ الجزءالثامن

  • معجزة الاسلام _ الجزء التاسع

  • معجزة الاسلام _ الجزء الحادى عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثانى عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثالث عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الرابع عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الخامس عشر

  • المبرأة من السماء _ الجزء الاول

  • المبرأة من السماء _ الجزء الثانى

  • الامام الاعظم

  • رفيقة النبى فى الجنة

  • إمام دار الهجرة

  • من أهل بيت رسول الله

  • سيدة القصر

  • رجل اشترى الآخرة بالدنيا

  • المجادِلة

  • المزيد.......
    التعليقات :



    الاسم  
    البريد الالكتروني    
    العنوان   
    التعليق