(مارييت) فى بيت المقدس           

 المحرر : نوران رضوان

 

كانت ((مارييت)) فتاة باسلة لم تكن تعرف الخوف ولكن وقعة (حطين) لم تدع لشجاع من الإفرنج قلباً ولم تترك لفارس فيهم أملا في نصر فقد طحنت جيوشهم طحناً وزعزعت قلوبهم عن مواضعها ، وكان زوج ((مارييت)) بطل القوم وكان قد رأى البنات من الإفرنج والألمان والإنجليز وكل أمة في أوربا فلم يرَ فيهن من هي أبهى جمالاً من ((مارييت)) فتزوجها فكانا خير زوجين ، ولكن حبه لها لم يشغلهعن حبه لوطنه وتمسكه بصليبيته وحرصه على أن يبقى فارس النصرانية فكان كلما دعا داعي القتال كان أول الملبين...

كانت ((مارييت)) تدور في البيت لا تستطيع أن تستقر تخاف على زوجها أن يصيبه مكروه، تضم ولدها الرضيع إلى صدرها تناجيه وتناغيه ثم يدركها اليأس ويخيل إليها أنه قد غدا يتيماً لا أب له فَتَتساقط الدموع من عينيها....وكان زوجها قد خرج من الغداة لرد الأعداء المسلمين عن بيت المقدس ومالت الشمس ولم يعد ولم تعرف ماذا حل به أغمضت عينيها وهي ترى صورة حلوة تأخذها معها في أحلامها زوجها يدخل عليها سالماً ويحدثها حديث النصر: لقد رد (يسوع) الأعداء ويكلمها عن هؤلاء الوحوش الكافرين ويصف لها فظاعة ديانتهم وكيف يأكلون لحوم أعدائهم وتستلقي على فراشها و تأمل أن ترى هذه البلاد كلها قد عادت للمسيح وأتباعه ولم تبق فيها منارة مسجد.

 ولكنها استيقظت فلم تجد إلا الحقيقة المؤلمة أحست أن المدينة دكت دكا ، وسمعت أصوات العويل والبكاء تتخللها صرخات الرجال فحملت ابنها ونظرت إلى سرير زوجها فلم تجده في مكانه... فخرجت تسأل ما الخبر فخبروها بأن (صلاح الدين) قد دار حول البلد حتى حط على جبل الزيتون ثم صدم المدينة صدمة زلزلتها وهزتها هزاً وهجم جنوده على الأسوار كالسيل المنحط وطفقت الأخبار تصل إليها متعاقبة وكل خبر شر عليها من الذي قبله حتى جاءها الخبر بأن الهدنة قد عقدت على أن يخرج من شاء من المدينة على مدة أربعين يوماً ومن أراد البقاء بقي في حكم صلاح الدين وأن تفتح له المدينة أبوابها وأن يدفع الرجل الذي يريد الخروج عشرة دنانير والمرأة خمسة والولد دينارين.

خرجت((مارييت))  تفتش عن زوجها الحبيب ومشت في الظلام تدور حول الأسوار حتى بلغت ساحة القتال فإذا هي تطأ على أعلام الصليبيين ممزقة محرقة، مختلطة بجثث الأجناد. فامتلأت نفسها رهبة وهمت بالعودة إلا إنها غالبت نفسها ومشت كانت تفتش عن زوجها ولا تستطيع أن ترجع حتى تلقاه أو تعرف خبره وكان حولها رجال ونساء كثيرون يبحثون كما تبحث عن قريب أو صديق ورأت هذه الأرض قد عادت للقوم الكافرين بيسوع وأمه... وأحزنها ذلك كما أحزنها فقدان زوجها ولم تقدر أن تتصور كيف يتبدل كل شيء بهذه السرعة وجعلت تسأل كل من تلقاه عن زوجها فلا يقف لها أحد ولا يرد عليها وإذا لقيت كريماً منهم رقيق القلب فسألته فعطف عليها بجواب لم يكن جوابه غير (لا أدري)!.

فمر بها شيخ كان يحدب عليها ويحب زوجها فأدركته الشفقة عليها فأخذ بيدها فاستخرجها من الساحة وكان الخطب قد حطم إرادتها وتركها كالتي تمشي في نومها فانقادت إليه طيعة وسارت معه وسألته هامسة كأنها تخاطب نفسها:   يا أبتاه هل رأيت زوجي؟

فلم يحب أن ينبئها بما تكره فلوى الحديث وشغلها بغير ما تسأل عنه فقالت:وما تظن أنهم يصنعون بنا يا أبتها؟ هل يخطفون ولدي ليأكلوا لحمه أمام عيني؟

قال: ومن خبرك بهذه الأكاذيب؟!! إن المسلمين قوم كرام أهل وفاء ونبل وإن ملكهم صلاح الدين خير الملوك قاطبة...

ومضى يحدثها عما عرفه من صفة المسلمين وهي فاتحة فمها دهشة لا تكاد تفهم ما يقول ولا تصدقه فعاد يقول: ولو أنهم ذبحونا لما كانوا معتدين بل كانوا منتصفين منا فإنا لما دخلنا القدس منذ مائة سنة قتلناهم في البيوت والشوارع والمساجد وحيثما وجدناهم حتى صاروا يلقون بأنفسهم من فوق الأسوار لينجوا منا وحتى بلغ عدد من قتلنا منهم سبعين ألفاً ولم يتحرك قلب منا بشفقة.

وأصبح الصباح وهي لا تزال تفتش وتبحث ولكن ((مارييت)) لم تكن ترى في هذا الصباح إلا ناراً تحرق كبدها فهرعت إلى جارات لها واجتمعن يترقبن ما يكون من الأهوال وجاءتهن الأخبار بما يصنع المسلمون في المدينة فجعلوا يعجبون ولا يصدقون أن المسلمين لم يؤذوا أحداً ولم ينهبوا مالاً وأن من شاء الخروج دفع ما اتفق عليه وحمل معه ما شاء وخرج وأن النصارى يبيعون ما فضل عنهم من أمتعتهم في الأسواق فيشتريها منهم المسلمون بأثمانها وأنهم يروحون ويجيئون آمنين مطمئنين لم يروا إلا الخير والمروءة واللطف وأن المسلمين قوم أهل حضارة وتمدن ليسوا وحوشاً ولا آكلي لحوم البشر.

وجاءهن شاهد عيان يصف لهن ما رأى وما سمع في المسجد قال: ودخلت فلم يمنعني أحد ولم يسألني من أنا فاختلطت بالمسلمين فإذا هم جميعا يجلسون على الأرض لا تتفاوت مقاعدهم ولا يمتاز أميرهم عن واحد منهم قد خشعت جوارحهم وسكنت حركاتهم ورأيت الخطيب قد صعد المنبر فخطب خطبة لو أنها ألقيت على رمال البيد لتحركت وانقلبت فرسانا. ومضت حتى تفتح الأرض وجدت هؤلاء الناس لا يغلبون أبداً ما داموا مسلمين ولو اجتمعت عليهم دول الدنيا لأن قوة الإيمان أقوى في نفوسهم من كل قوة إنه لا يخيفهم شيء لأن الناس إنما يخيفون بالموت ومنه يخافون وهؤلاء قوم يحبون الموت ويريدون أن يموتوا، إنه لا أمل لنا فيها لقد أنزلوا الصليب اليوم بعدما لبث مائة سنة فلن يعو. لن يعلو هذه القبة إلا شعار محمد... فلا نصرانية... ولا يهودية.

ونظرت ((مارييت)) فإذا قومها قد آثر فريق منهم البقاء في ظل الراية الإسلامية حينما رأوا في ظلالها العدل والأمن والهدى وأبى فريق إلا الرحيل فاختارت أن تكون مع هذا الفريق لا كرهاً بالمسلمين ولكنها لم تستطع أن تقيم وحيدة في البلدة التي يذكرها كل شيء فيها بزوجها وبحبها وبسعادتها التي فقدتها، ومشت القافلة وتلفتت ((مارييت)) إلى الوراء تودع هذه البلدة الحبيبة إلى قلبها المقدسة عندها ونظرت إلى موضع الصليب الذهبي الذي كان يشرق كالشمس على قلبا فرأته خالياً منه فأحست أنها تركت قلبها في هذا البلد الذي كان لقومها فصار لعدوها وخلفت فيه ذكريات صباها وبقايا سعادتها وحبها ولكنها فرحت بالخروج منه حتى لا ترى ما يذكّرها كل يوم بما فقدت ولتلحق بديار قومها.

سارت وهي سابحة في أفكارها فبكت واختلط نشيجها بنشيج النسوة من حولها وهن يبكين من خلفن من الأسرى والقتلى وإذا بالجنود يقفونهن فسكتن من الفزع ووقفن وأيقن بالهلاك ، فأرجعوهن فإذا على رابية طائفة من المسلمين بينهم شيخ على فرس له. لم يرع ((مارييت)) وصحبها إلا قولهم: هذا هو السلطان هذا هو (صلاح الدين) المخيف آكل لحوم البشر شارب الدماء وجعلت تختلس النظر إليه فلا ترى ملامح الوحش الكاسر ولا تبصر الأنياب ولا المخالب ولا ترى إلا الهيبة والنور والجلال فلما وقفن عليه قال: ما تردن؟

قالت امرأة: رجالنا في الأسر. أزواجنا...وتصايحن وبكين... فبكى السلطان رقة لهن وأمر بإطلاق أسراهن وأعطاهن الدواب والطعام والمال...

لما رأت ((مارييت)) زوجها صحيحاً معافى وألقت بنفسها بين ذراعيه وأحست ((مارييت)) في قلبها بالاعتراف بفضل هذا الرجل المحسن ورأت فيه الإنسانية والحق والنبل وحاولت أن تذكر سيئة واحدة لهذا الرجل ولقومه تستعيد بها بغضاءها إياهم فلم تجد وجعلت تقابل بينه وبين البطريق الأعظم الذي خرج مع القافلة بعدما استلب المعابد وكنوزها وكنس الكنائس وحمل كل ما كان فيها ولم يعط من هذا المال أحداً لم يجُد به على امرأة ضعيفة تمشي معه ولا على شيخ عاجز وذكرت ما سمعت من أن السلطان تركه يخرج بهذا المال مع أنه شرط لهم الخروج بأموالهم لا بأموال الكنائس وذكرت ما كان يصنع قومها من إخلاف الوعود والحنث بالعهود فتمنت لو أنها كانت مسلمة ولكنها لم تجهز بهذه الأمنية وخنقتها في نفسها.

مشت هذه القافلة في الطريق المقفرة لم تكن تحب أن تعرج على شيء من بلاد الإسلام كانت وجهتها طرابلس فلما بلغتها بعد الجهد البالغ والمشقة المهلكة وبعد أن تركت في الطريق ضحايا الجوع والتعب أغلق أميرها السور في وجه القافلة وردها ثم بعث رجاله فاستلبوها ما كان معها فانبرى لهم الشجعان والأبطال ليردوهم فأوقعوا بهم وقتلوه. وكان فيمن قتل زوج ((مارييت)) وتاه من بقي في البرية. وعاد أكثر أهلها إلى دنيا الأمن والمروءة والنبل دنيا المسلمين وكانت ((مارييت)) مع التائهين تمشي معهم قد مات حسها وتبلد شعورها ولم تعد تستطيع أن تفكر في شيء تنزل بنزولهم وترجل برحيلهم وتأكل إن أطعموها وتصمت إن تركوها حتى بلغوا أسوار أنطاكية فطردهم أهلها وردوهم.

فرجعوا إلى بلاد الإسلام وقد أيقنوا أنه لن يكون في الأرض أنبل ولا أفضل من هذا الشعب الذي علمه محمد صلى الله عليه وسلم كيف تكون الإنسانية، أما ((مارييت)) فبقيت مكانها ذاهلة فأقبل عليها شاب من أهل أنطاكية من قومها فأخذ بيدها وواساها فانقادت له وسارت معه حتى احتواها منزله على سيف البحر فسقطت من التعب والإعياء نائمة وأيقظها لغط حولها.

فاستفاقت فسمعت صوت رجل يقول لصاحبه:ما ندعك تنفرد بها إنها أجمل امرأة وقعنا عليها.

فيقول الأول: ولكنها صيدي أنا...

ففهمت أن الخلاف على شرفها وعفافها ويعود إليها ذهنها فتذكر الماضي كلها وتدرك أنها فقدت زوجها وحاميها ويشد الغضب من عزمها فتقول لهم: ويحكم. أهذه هي مروءتكم وإنسانيتكم. أهذا هو دينكم يا أهل أوربا؟

فيضحكان ويقهقهان فيشتد بهذا الغضب وتصرخ بهما: لا والله لستم للمسيح ولا لمحمد أنتم للشيطان... أولئك هم الذين جمعوا المسيح ومحمداً... أولئك أهل الفضائل أرباب الأمجاد خلاصة الإنسانية إنكم لن تغلبوه. لن تأخذوا أرضكم المقدسة من أيديهم أبداً... كلا إنهم أحق بها...لأنهم أوفى منكم لمبادئ المسيح إنهم أعرق منكم في الإنسانية إن المستقبل لهم...إن لهم المجد والظفر. ولكم أنتم اللعنة... لكم الخيبة والخزي.

 فلم تجد منهما إلا إيغالاً في الضحك وتتلفت حولها فلا تجد ناصراً وأين المعين على الحق المدافع عن الشرف في بلد ليس فيه مسلم.

و أقبلا عليها بعيون محمرّة فيجن جنونها فتلقي بولدها في اليم وترمي بنفسهاوكان البحر ساكناً وترجع نفوسهم إلى خالقها وهى تلعن هؤلاء الأوغاد (الواغلين في فلسطين)!... وعاد البحر ساكناً كما كان...وأسدل الستار وانطويت صفحة أخرى من صفحات التاريخ العربي الإسلامي لنرى فيه حقيقة المسلمين و أخلاقهم و حضاراتهم.. و لم تكن تلك الصفحة إلا لإعادة مجد التاريخ الإسلامي لأذهان المسلمين.

المصادر:

برنامج روائع حضارتنا للدكتور طارق سويدان

فى بيت المقدس لأستاذ على الطنطاوي ، http://www.alnoor.info/ali/


عدد الزيارات : 249

Share

مقالات ذات صلة :
  • الحضارة عربية أم إسلامية ؟؟

  • الإسلام بين العلم و التاريخ

  • عظمة الإسلام في التعامل مع الآخرين

  • محكمة سمرقند

  • هيلانه و لويس

  • (ميسون) امرأة تبعث أمة

  • ليلة سقوط غرناطة (أسبانيا)

  • الرسالة

  • وراء كل صورة ......حكاية

  • مقدمة عن قيام دولة الأندلس

  • مثل الملوك على الأسرة

  • رجل وجبل

  • فجر جديد

  • النبوءة

  • بلاط الشهداء ... نهاية التوسع الإسلامى فى أوروبا

  • وا أندلساه

  • رد اللواء محمد زكي عكاشة على روايات أ/ هيكل ج1

  • رد اللواء محمد زكي عكاشة على روايات أ/ هيكل ج2

  • المزيد.......
    التعليقات :



    الاسم
    البريد الالكتروني
    العنوان 
    التعليق