الرسالة           

 المحرر : نوران رضوان

          

ما أصعب تلك اللحظات التى يهاجر فيها الإنسان من بلده إلى بلد آخر بعد ما تعرض إلى الإيذاء من حوله . فالانتقال يمثل عبئا نفسيا وماديا لصاحبه حيث يترك أرضه الأولى وما له فيها من ذكريات ومنافع ، إلى أرض آخرى جديدة لا يدرى ماذا يحدث له فيها .

قد يهاجر الإنسان بحثا عن العمل أو المال أو المعيشة الأفضل ، ولكن هذه المرة فإن الهجرة تختلف لأنها كانت من أعظم الأحداث التى غيرت تاريخ البشرية كلها ، إنها هجرة تحمل معان عميقة فى الوجدان والعقيدة ، إذ تفصل بين الحق والباطل ، لأنها هجرة إلى الله ، وهجرة من الشرك و الكفر إلى الإسلام ، ولذلك كله بدأ التاريخ الهجرى عند المسلمين انطلاقا من سنة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة ، ولأن أول النصر هو القوة النفسية ، فحينما قال سيدنا أبو بكر الصديق "لو نظر أحدهم تحت قدميه لرأنا" ، فقال له محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم :

                                  " لا تحزن إن الله معنا "

 

ولنر سويا لماذا كان  رسول الله محمد يتحمل تلك الصعاب ولتكن الإجابة على لسان أحد العلماء الأوربيين الدكتور ماركس دودز عندما قام بمقارنة بين محمد وبوذا والمسيح فسأل : "أليس محمد نبيا على وجه من الوجوه ؟" ثم أجاب قائلا : " إنه على اليقين لصاحب فضيلتين من فضائل الأنبياء ، فقد عرف حقيقة عن الله لم يعرفها الناس من حوله ، وتمكنت من نفسه نزعة باطنية لا تقاوم لنشر تلك الحقيقة ، وإنه لخليق فى هذه الفضيلة أن يسامى أوفر الأنبياء شجاعة وبطولة بين بنى إسرائيل ، لأنه جازف بحياته فى سبيل الحق ، وصبر على الإيذاء يوما بعد يوم على مدار عدة سنين ، وقابل النفى والحرمان ، وفقد مودة الأصحاب بغير مبالاة ، فثابر بقوة وصابر على هذه الأمور الجلل ، ودأب مع هذا جميعه على بث رسالته غير قادر على إسكاته وعد ولا وعيد ولا إغراء ولا تهديد ... وربما اهتدى إلى التوحيد أناس آخرون بين عباد الأوثان ، إلا أن أحد أخر غير محمد لما يقم فى العالم مثلما أقام من إيمان بالوحدانية دائم مكين ، وما أتيح له ذلك إلا لمضاء عزمه أن يحمل الآخرين على الإيمان ، فإذا سأل سائل : ما الذى دفع محمد إلى إقناع غيره حيث رضى الموحدون بعبادة العزلة ؟ ... "فلا مناص لنا أن نسلم أنه هو العمق

والقوة فى إيمانه بصدق ما دعا إليه " .

 

نعم لقد تحمل كثيرا فلم يترك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة لتبليغ رسالته إلى الناس إلا سلكها ، ولم يترك خصومه وسيلة لحمله على ترك دعوته إلا سلكوها ، ولكنه ثبت رغم كل إغراء وتهديد بالقتل والاغتيال ، وقال لعمه أبى طالب قولته المشهورة : "والله ياعم ! لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته" . ولما شج وجهه صلى الله عليه وسلم فى معركة ( أحد ) وكسرت رباعيته ( السن المجاور للناب ) قيل له لو دعوت عليهم ؟ ... فقال : "إنى لم أبعث لعانا ، ولكنى بعثت داعيا ورحمة ، اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون" .

 

كما يقول إميل درمنغم مستشرق فرنسى ".. الحق أن النبى لم يعرف الراحة ولا السكون بعد أن أوحى إليه فى غار حراء . فقضى حياة يعجب الإنسان بها ، والحق أن عشرين سنة كفت لإعداد ما يقلب الدنيا ، فقد نبتت فى رمال الحجاز الجديبة حبة سوف تجدد ، عما قليل ، بلاد العرب وتمتد أغصانها إلى بلاد الهند والمحيط الأطلنطى . ولي لدينا ما نعرف به أن محمدا أبصر ، حين أفاض من جبل عرفات ، مستقبل أمته وانتشار دينه ، وأنه أحس ببصيرته أن العرب الذين ألف بينهم سيخرجون من جزيرتهم لفتح بلاد فارس والشام وأفريقية وإسبانية" .

 

لقد شهد العالم الكثير من العظماء ، ولكن كل منهم فى ناحية أو أثنين من نواحى الحياة فقط مثل المعتقدات الدينية أو القيادة العسكرية . ومع ذلك طمست تعاليمهم بمرور الزمن وتغير الحياة بما يؤثر فى الحكم على مدى نجاح أو فشل تلك التعاليم مما يجعل من المستحيل على البشرية أن تحيى تعاليم هؤلاء العظماء .

 

ولكن ذلك لا ينطبق باى حال على محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث أكمل الكثير فى مجالات متعددة ومختلفة سلوكيا وفكريا بتألق ليس له مثيل فى تاريخ البشرية . فقد وثقت كل تفاصيل حياته الخاصة وأحاديثه العامة بدقة وحفظت بإخلاص حتى يومنا هذا . وإسناد تلك الأحاديث لم يحققه صحابته والتابعين المخلصين فقط بل أيضا ناقديه والمتحاملين عليه .

 

كان رسول الله محمد معلما دينيا ، ومصلحا اجتماعيا ، وقائدا أخلاقيا مثاليا ، وصديقا وفيا ، ورفيقا رائعا ، وزوجا مخلصا وأبا حنونا كل ذلك فى شخص واحد . على مر التاريخ لم يتفوق أحد عليه فى مثل هذه الصفات المجتمعة فى مجالات الحياة المختلفة كما ولم يرق أحد ليساويه فكان وحدة بشخصيته المعطاءة الذى وصل إلى هذا الحد من كمال الأخلاق .

ما كان محمد (صلى الله عليه وسلم) الا بشرا ، رجلا يحمل رسالة نبيلة لتوحيد البشرية لعبادة الله الواحد الأحد ويأخذ بيدها للطريق الحق للحياة فى طاعة الله . فقد كانت كل افعاله تؤكد على ما كان يصف نفسه به دائما "عبد الله ورسوله" .

 

ومن أجمل ما قال المستشرق لين بول : "إن محمدا كان يتصف بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق ، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يثار بما تتركه هذه الصفات فى نفسه من أثر ، ودون أن يكون هذه الحكم صادرا عن غير ميل أو هوى ، كيف لا وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعواما ، فلم يهن له عزم ، ولا ضعفت له قوة ، وبلغ من نبله أنه لم يكن فى حياته البادئ بسحب يده من يد مصافحه ، حتى ولو كان المصافح طفلا ، وأنه لم يمر بجماعة يوما ، رجالا كانوا أو أطفالا دون أن يقرئهم السلام ، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة ، وفيه نغمة جميلة كانت تكفى وحدها لتسخر ، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذبا" .

 

ويقول الشاعر الفرنسى الشهير لامارتين : " أعظم حدث فى حياتى هو أننى درست حياة رسول الله محمد دراسة واعية ، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود ، ومن ذا الذى يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد ؟! ومن هو الرجل الذى ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التى تقاس بها عظمة الإنسان؟! إن سلوكه عند النصر وطموحه الذى كان مكرسا لتبليغ الرسالة وصلواته الطويلة وحواره السماوى هذه كلها تدل على إيمان كامل مكنه فى إرساء أركان العقيدة . إن الرسول والخطيب والمشرع والفاتح ومصلح العقائد الأخرى الذى أسس عبادة غير قائمة على تقديس الصور هو محمد ، لقد هدم الرسول المعتقدات التى تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق " .

 

إن عظمة النبى (صلى الله عليه وسلم) تكمن فى أنه حامل رسالة سماوية تنويرية ، عنوانها لا إله إلا الله ، تهدف إلى إصلاح حياة البشرية عامة ، وتحريرها من عبادة الأوثان والشيطان .. ومن ثم نقلها إلى الحضارة المستنيرة . كان محمد رسول الله معلم تربوى فلم يكن خطابا دكتاتوريا ، إنما كان خطابه إلى الناس خطابا تربويا .. لم يكن يغلب عليه طابع الحاكم بقدر ما غلب عليه طابع المعلم ...

 

فيقول الفيلسوف الإنجليزى جورج برناردشو : " لم يسجل التاريخ أن رجلا واحدا ، سوى محمد ، كان صاحب رسالة وبانى أمة ، ومؤسس دولة ... هذه الثلاثة التى قام بها محمد ، كانت وحدة متلاحمة ، وكان الدين هو القوة التى توحدها على مدى التاريخ " .

أما مايكل هارت فيقول فى كتابه (المائة الأكثر تأثيرا فى التاريخ) : " كان محمد الرجل الوحيد فى التاريخ الذى نجح فى مهمته إلى أقصى حد ، سواء على المستوى الدينى أم على المستوى الزمنى " .

 

ولعلى أختم بالرسالة التى بعث بها محمد رسول الله ليدعوا بها إلى الإسلام :

كتاب رسول الإسلام إلى المقوقس عظيم مصر

" من محمد رسول الإسلام إلى المقوقس عظيم القبط : سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإنى أدعوك بدعوة الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } آل عمران:64

وتقول الرواية : إن المقوقس لما قرأ الكتاب سأل حامله (حاطب بن أبى بلتعة) : ما منع صاحبك إن كان نبيا أن يدعو على من أخرجوه من بلد فيسلط الله عليهم السوء ؟ فقال حاطب : وما منع عيسى أن يدعو على أولئك الذين تآمروا عليه ليقتلوه فيسلط الله عليهم ما يستحقون ؟ قال المقوقس : أنت حكيم جئت من عند حكيم " .

كتاب رسول افسلام إلى النجاشى ملك الحبشة

" من محمد رسول الإسلام إلى النجاشى ملك الحبشة : سلام عليك إنى أحمد الله إليك ، الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه كما خلق آدم بيده ، وغنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل ، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحى ، والسلام على من اتبع الهدى " .

وأخيرا فلنجعل التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمد وشائنيه ، لأن حكمه انفذ من حكم الشائنين والأصدقاء ، وأنفذ من حكم المشركين والموحدين ، وأنفذ من حكم المتدينين والملحدين ....

لأنه حكم الله .

 

 

المصادر :

كتاب عبقرية محمد لعباس محمود العقاد

كتاب ربحت محمدا ولم أخسر المسيح للدكتور عبد المعطى الدالاتى

كتاب (عظماؤنا فى التاريخ) للدكتور مصطفى السباعى

كتاب حياة محمد ، للمستشرق الفرنسى اميل درمغنم وترجمه الأستاذ الفلسطينى محمد عادل زعيتر

هل تعرف من يكون "محمد" صلى الله عليه وسلم ؟ ليوسف استس ،www.rasoulallah.net

http://ar.wikipedia.org

 

   


عدد الزيارات : 662

Share

مقالات ذات صلة :
  • الحضارة عربية أم إسلامية ؟؟

  • الإسلام بين العلم و التاريخ

  • عظمة الإسلام في التعامل مع الآخرين

  • محكمة سمرقند

  • (مارييت) فى بيت المقدس

  • هيلانه و لويس

  • (ميسون) امرأة تبعث أمة

  • ليلة سقوط غرناطة (أسبانيا)

  • وراء كل صورة ......حكاية

  • مقدمة عن قيام دولة الأندلس

  • مثل الملوك على الأسرة

  • رجل وجبل

  • فجر جديد

  • النبوءة

  • بلاط الشهداء ... نهاية التوسع الإسلامى فى أوروبا

  • وا أندلساه

  • رد اللواء محمد زكي عكاشة على روايات أ/ هيكل ج1

  • رد اللواء محمد زكي عكاشة على روايات أ/ هيكل ج2

  • المزيد.......
    التعليقات :


  • سعيد الظاهرى     مقال جميل

    لقد مدحت رسول الله في مقالك هذا. أسأل الله أن يرفع مقامك ثواب لك في إشادتك بنبيه وحبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم . تحياتي لك
  • د.خالد أحمد     صاحب الرسالة

    موضوعك يا أستاذة نوران بحق جميل عن صاحب اجمل رسالة. سوف يظل التاريخ يقول ويقول عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ولن يوفيه احد حقة. ولكن هذه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومن يحملها من بعده ينال شرفها وعزها. وكل براغيث الأرض الذين يتطاولون على سيد ولد ادم ولا فخر لن ينالوا منه أبدا فما يضير السحاب نبح الكلاب
  • د.خالد أحمد     احسن حدث في حياتي

    إقتباس "ويقول الشاعر الفرنسي الشهير لا مارتين: "أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة واعية ، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود، ومن ذا الذي يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد ؟! ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تُقاس بها عظمة الإنسان؟!" لقد درسنا جميعا سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولكن هن منا احس ان ما فعله كان احسن حدث في حياته مثلما قال هذا الرجل. إذا لم تشعر ولم اشعر او نسيت انك عندما قرأت سيرة الرسول قمت بأعظم حدث في حياتك فما عليك إلا ان تعاود الكرة وتقرأ سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لتحس هذا الفيض الذي يشعرك ويشعرنى اننا اصحاب رسالة. لقد قرأت المقال للمرة الثانية ولم اشعر بالملل مطلقا فالإسلوب رائع والإستشهادات قيمة والموضوع عن انبل ولد أدم ولا ريب. تحياتي
  • محمد عادل     موضوع جميل

    بجد الموضوع جميل جدا يكفى عن السيره العطره عن اجمل البشر واحبهم الى قلبى ياريت تزدينا من الموضوع الى زى كدا علشان الاغلبيه دلوقتى من الشباب تفتقر هذه المواضيع شكرا مره تانى

  • الاسم
    البريد الالكتروني
    العنوان 
    التعليق