ترنيـمة الغربــاء           

 المحرر : سمية محمد بدرى

 

 

إنّ للأيام الطاهرات- التى قلما تصطحب الإنسان فى رحلة حياته مذاقاً خاصاً لدى كل نفس متطهرة صادقة لم تأمن يوماً لواقع ميسور ولم تغتر يوماً بفؤاد آمن مسرور .

مذاقاً خاصاً تتذوق به لذة لحظات قربه وساعات مناجاته وأيام دعائه وشهور سؤاله وسنين رجائه وأعمار تفكر فى نعمائه وتدبر لآلائه .

تتذوقه نفوس مؤمنة فى واقع الفساد غريبة .. تتذوقه أرواح مجاهدة كريمة فهى فى دنيا الحياة شهيدة.. تتذوقه قلوب طاهرة عفيفة فى حظائر الانحلال كئيبة .. تتذوقه أجساد سجينة في واقع الحرية سليبة .

تتذوقه كل تلك النفوس والأرواح والقلوب والأجساد وهى تحمل يبن جنباتها وتتغلغل فى حناياها لذة "الغربة ".

فهى فى واقعها غريبة لكنها بنعمة حياتها سعيدة ، تأنس بأنسه سبحانه وتبصر بضيائه" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " وتحيا بغايته منها " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " وتحتكم إلى منهجه " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ " ، وتستسلم لقدره وقضائه فيها " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ".. فأولئك حقّ لهم أن يكونوا فيها غرباء .. غرباء فى حياة العابثين.. أوفياء لعهد قد كانوا له قاطعين ..ماضين فى طريق هم إليه سائرين ، لا يضرهم فيه كيد الكائدين ولا يُعجزهم مكر الماكرين فهم من قوله " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"   

واثقين‏.. متطلعين إلى غايةٍ هم إليها متشوقين وإلى وعدٍ هم منه متيقنين

" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"

هؤلاء هم  الغرباء فى كل أرض وفى كل زمان .. ، فالحر لا وطن له كالطير المهاجر بلا مرسى ، إنما وطنه ومرساه حيثما كانت حريته وكرامته وإنسانيته .. مغرداً للحن الحرية وعازفاً دوما لـ"ترنيمة الغرباء ".

ففيهم صدق قول الشاعر :

قال لي صاحب أراك غريبا             بين هذا الأنـام دون خلـيـلِ
قلت كلا بل الأنام غريــبٌ              أنا في عالمي وهذي سبيلي

هؤلاء من اتخذوا من نهج أبيهم إبراهيم نموذجا " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" ، ومن هدى رسولهم محمد) صلى الله عليه وسلم ) سبيلا " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".

وهم كذلك يدركون أنّ الغربة ألوان شتى .. غربة الفهم .. غربة القيم .. غربة الموازين وكذا غربة المجتمع والواقع .

غربة الفهم لإسلامهم بمعناه الشامل .. غربة القيم والأخلاق التى يدين بها أصحاب دينهم .. غربة الميزان الحق الذى يزنون به والقياس الذى يقيسون إليه وكذا غربة المجتمع المسلم والواقعى الإسلامى الحاضن .

ففي حديث ثوبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال طـائفة مـن أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم مـن خـذلهم ولا مـن خالفهم حتـى يأتـي أمـر الله وهم ظـاهرون"

فالغرباء أهل استقامة وصلاح فى مجتمع تيه وفساد تتغير من حولهم الظروف وتتبدل الأوضاع وهم على الحق ثابتين ولدينهم مخلصين "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ"

قال فيهم ابن القيم رحمه الله - :

"هؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً سُمّوا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، و أهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع، فيهم غرباء، والداعون إليها، الصابرون على أذى المخـالفين، أشـد هـؤلاء غربة" .

هؤلاء الغرباء يحيون فى كل زمان وفى كل مكان .. فى كل وقت وفى كل أرض .. هم أهل الحق وحماته ولكن لقلتهم فى غبش الباطل وانتفاشه لا يظهرون ، فقد ذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية : "سيظهر شرار أمتي على خيارها حتى يتخفى المؤمن كما يتخفى المنافق فينا اليوم"

فى وصف حالهم قال عبدالرحمن العشماوى :

غريب وأوطاني تُداس وأمتي            تعاني وموج الظلم يشتد صائله
غريب وهل في هذه الدار منزل؟       لمن في سواها تستقر منازله
ألا ليت شعري يا بلادي متى أرى      خميساً من الأبطال سارت جحافله
يجَّمعنا شرع حكيم وسنّة               فيبدوا لنا زيف الضلال وباطله
أقافلة الإسلام هيا تحفزي               وسيري فإن الشر سارت قوافله
أيا أمتي قد يأنس المرء بالهـوى         ويشتاق للدنيا وفيها مشاغلُه
ويمضي مع الأيام يشدو بحبها            وفيها ولو يدري تقيم مقاتله
غريب .. ختار الحياض وماؤها         غثاء وحوض الدين تصفو مناهله
وكم من صديق تحسب الخير قصده      فتبدو على مر الليالي مهازله
ومن سار في الدنيا بغير طريقة           فقد بات والأوهام سم يداخله
تناول من الأغضان ما تستطيعه          ودعك من الغصن الذي لا تطاوله

 

إلى كل الغرباء فى كل أرض وفى كل مكان فى ذكرى أيام طاهرات أُهدى "ترنيمة الغرباء " .


عدد الزيارات : 235

Share

مقالات ذات صلة :
  • مقدمة

  • أما آن لموتى القبور أن يستيقظوا؟!!

  • الفرار

  • الجسد

  • العار

  • مباراة متوازنة جداااااااا

  • صدر الحكم يا سادة

  • الطير المهاجر

  • إنا لله وإنا إليه راجعون

  • يا رسول الله

  • خواطر من يوم أكتوبر

  • التجربة المخيفة _ الجزء الأول

  • التجربة المخيفة _ الجزء الثاني

  • دروب الوهم والأمل

  • شـــــذرات

  • مع كل رشفة صباحية

  • قصيدة الحب روض بابه الإخلاص

  • صاغها الفؤاد وقالها اللسان

  • رحلة إلى مدينة البالونات

  • الحب الحقيقى

  • أنـــا الفاتــنة

  • أين ذهب مذاق السكر ؟

  • عمر ذات الثالثة عشر عاما يدرس في الجامعة الأمريكية

  • قصيدة مثل أسلافهم

  • ذكرى موت القلوب

  • قصيدة إلى متى ؟؟

  • شاب عراقي يحل لغز أرقام برنولى

  • الـــــغــــراب

  • في موقف الأتوبيس

  • إرادة حديدية

  • القرش

  • تخيل

  • مستشفى 57357

  • امسك العصابة

  • ياريتنى أكون

  • الإرهابي

  • آه يا قلبي

  • هذه هي همة الصغار ... فأين منها همة الكبار؟

  • انا هى تلك الفتاة

  • ما زالوا يطرقون ابوابنا

  • مصر هتتغير بأيدينا.. تجربة رائعة لمواطنة مصرية

  • رجب و موسوعة جينيس

  • وصل صوتك مهما كانت الضغوط

  • رمضان بالمغرب

  • بأي جديد جئت يا عيد!!

  • المزيد.......
    التعليقات :


  • هاله     ترنيمة الغرباء

    الغربة ألوان شتى .. غربة الفهم .. غربة القيم .. غربة الموازين وكذا غربة المجتمع والواقع . موضوع قيم جدا ورائع واسلوب بديع
  • نوران     طوبى للغرباء

    قد يشعر الانسان انه غريب و لكنه ليس له أن يقلق مادام طريقه هو اتباع لتعاليم الله
  • فاطمة داود     رد

    فأولئك حقّ لهم أن يكونوا فيها غرباء .. غرباء فى حياة العابثين.. أوفياء لعهد قد كانوا له قاطعين ماشاء الله كتبتى فابدعتى فبارك الله فيكى و فى قلمك

  • الاسم
    البريد الالكتروني
    العنوان 
    التعليق