رجل اشترى الآخرة بالدنيا           

 المحرر : نوران رضوان

004ga6.jpg

 

كان الفتى سعيد بن عامر الجمحي ، واحدا من الآلاف المؤلفة ، الذين خرجوا إلى منطقة التنعيم في ظاهر مكة بدعوة من زعماء قريش ، ليشهدوا مصرع خبيب بن عدي أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن ظفروا به غدرا . ثم أبصر سعيد بن عامر خبيبا يرفع بصره إلى السماء من فوق خشبة الصلب ويقول : اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا ، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة . عادت قريش إلى مكة ، ونسيت في زحمة الأحداث خبيبا ومصرعه . و لكن لم يغب خبيب عن خاطره لحظة . و أدرك أن الرجل الذي يحبه أصحابه كل هذا الحب إنما هو نبي مؤيد من السماء عند ذلك شرح الله صدر سعيد بن عامر إلى الإسلام ، فقام في ملأ من الناس ، وأعلن براءته من آثام قريش وأوزارها ، وخلعه لأصنامها وأوثانها ودخوله في دين الله.

هاجر سعيد بن عامر إلى المدينة ، ولزم رسول الله صلوات الله عليه ، وشهد معه خيبر وما بعدها من الغزوات . ولما انتقل النبي الكريم على جوار ربه وهو راض عنه ، ظل من بعده سيفا مسلولا في أيدي خليفتيه أبي بكر وعمر ، وعاش مثلا فريدا فذا للمؤمن الذي اشترى الآخرة بالدنيا ، وآثر مرضاة الله وثوابه على سائر رغبات النفس وشهوات الجسد.

مواقف من حياته :

تولية عمر له على أهل حمص

دخل على عمر بن الخطاب في أول خلافته فقال :" يا عمر ، أوصيك أن تخشى الله في الناس ، ولا تخشى الناس في الله ، وألا يخالف قولك فعلك ، فإن خير القول ما صدقه الفعل "

فقال عمر : ومن يستطيع ذلك يا سعيد ؟!

فقال : يستطيعه رجل مثلك ممن ولاهم الله أمر أمة محمد ، وليس بينه وبين الله أحد .


عند ذلك دعا عمر بن الخطاب سعيدا إلى مؤازرته وقال : يا سعيد إنا مولّوك على أهل " حمص "

فقال : يا عمر نشدتك الله ألا تفتنني

فيصيح به عمر: " والله لا أدعك.. أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي.. ثم تتركوني"..؟؟!!

واقتنع سعيد في لحظة، فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا الإقناع.

أجل. ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلافتهم، ثم يتركوه وحيدا..وإذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر، فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟

شكوى أهل حمص

كانت حمص حينئذ، توصف بأنها الكوفة الثانية وسبب هذا الوصف، كثرة تمرّد أهلها واختلافهم على ولاتهم. ولما كانت الكوفة في العراق صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها... وعلى الرغم من ولع الحمصيين بالتمرّد ، فقد هدى الله قلوبهم لعبده الصالح سعيد، فأحبوه وأطاعوه.


ولقد سأله عمر يوما فقال: " إن أهل الشام يحبونك".؟ ... فأجابه سعيد قائلا:" لأني أعاونهم وأواسيهم"..!

بيد أن مهما يكن أهل حمص حب لسعيد، فلا مفر من أن يكون هناك بعض التذمر والشكوى...فزار عمر رضي الله عنه حمص تحدث مع أهلها و سمع شكواهم.

فقالوا : نشكو منه أربعا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، ولا يجيب أحد بليل، وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه، وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين...

فقال عمر في نفسه : اللهم إني أعرفه من خير عبادك، اللهم لا تخيب فيه فراستي...ودعا سعيدًا للدفاع عن نفسه...

فقال سعيد: أما قولهم إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إنه ليس لأهلي خادم، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج إليهم...وتهلل وجه عمر وقال: الحمد لله، والثانية؟!...

قال سعيد: وأما قولهم: لا أجيب أحدا بليل، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إني جعلت النهار لهم، والليل لربي ...

وأما قولهم: إن لي يومين في الشهر لا أخرج فيهم، فليس لي خادم يغسل ثوبي، وليس لي ثياب أبدله، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر حتى يجف بعد حين وفي آخر النهار أخرج إليهم...

وأما قولهم: إن الغشية تأخذني بين الحين والحين، فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، وحملوه على جذعه، وهم يقولون له: أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى؟...فيجيبهم قائل: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمه، ويصاب رسول الله بشوكة...فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته، وأنا يومئذ من المشركين، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومه، أرتجف خوفا من عذاب الله ويغشاني الذي يغشاني...

وانتهت كلمات سعيد المبللة بدموعه الطاهرة...ولم يتمالك عمر نفسه وصاح: الحمد لله الذي لم يخيب فراستي...وعانق سعيدا.

ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال سعيد بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجيء فقراء المسلمين يزفون كما يزف الحمام ويقال لهم: قفوا للحساب فيقولون: والله ما أعطيتمونا شيئا تحاسبونا به. فيقول الله عز وجل: صدق عبادي. فيدخلون الجنة قبل الناس بسبعين عاما.

وفاته

وفي العام العشرين من الهجرة، لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة، وأتقى ما يكون قلبا، وأنضر ما يكون سيرة..
سلام على سعيد بن عامر...سلام على سيرته وذكراه..

 

المصادر

كتاب رجال حول الرسول للأستاذ خالد محمد خالد

موقع رسول الله


عدد الزيارات : 461

Share

مقالات ذات صلة :
  • معجزة الإسلام - الجزء الأول

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثانى

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثالث

  • معجزة الاسلام _ الجزء الرابع

  • معجزة الاسلام _ الجزء الخامس

  • معجزة الاسلام _ الجزء السادس

  • معجزة الاسلام _ الجزء السابع

  • معجزة الاسلام _ الجزءالثامن

  • معجزة الاسلام _ الجزء التاسع

  • معجزة الاسلام _ الجزء العاشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الحادى عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثانى عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الثالث عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الرابع عشر

  • معجزة الاسلام _ الجزء الخامس عشر

  • المبرأة من السماء _ الجزء الاول

  • المبرأة من السماء _ الجزء الثانى

  • الامام الاعظم

  • رفيقة النبى فى الجنة

  • إمام دار الهجرة

  • من أهل بيت رسول الله

  • سيدة القصر

  • المجادِلة

  • المزيد.......
    التعليقات :


  • محمد سليم     شكر

    جزاك الله كل خير يا نوران ونتمنى أن تكون سلسلة من صفحات مضيئة للتاريخ الأسلامي يتم عرضها في الموقع لتذكيرنا وتذكير الشباب بهؤلاء الأبطال ليكونو لهم قدوة حسنة
  • نوران     جزانا و اياكم

    باذن الله سنحاول فى هذا الباب عرض حياة اشخاص كانوا ابطال و قدوة حسنة لنا جميعا.

  • الاسم
    البريد الالكتروني
    العنوان 
    التعليق