قال تعالى " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن " سورة النساء أية 34 .. في العصر الحديث دار حول حوارا وجدلا واسعا حول قوله تعالى { وَاضْرِبُوهُنَّ } ( النساء : من الآية34 ) ، وفهم الناس أن معنى ذلك حق الزوج في ضرب زوجته بالمعنى الدارج والشائع لمفهوم الضرب .
- وقد أدى هذا الفهم الخاطئ للأمر الإلهي إلى التناقض بين هذا الأمر والهدي النبوي في معاملة المرأة ، ومن أغرب ما شاهدت وسمعت هذا الدكتور في إحدى الفضائيات العربية الذي يقول إنني أوجع زوجتي ضرباً امتثالاً للأمر الإلهي ، والمعلوم أن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يضرب زوجة من زوجاته قط ، وأنه قال : ( خيركم من لا يضرب ) وعندما حدث خلاف كبير بين الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونسائه لم يضرب واحدة منهن ، بل ترك لهن الحُجُرات واعتكف في المسجد .
- وقد نشرت مجلة إسلامية المعرفة في العدد الرابع والعشرين الصادر في ( 2001م ) بحثاً قيماً في هذا الموضوع خلص الباحث فيه إلى أن الضرب الوارد في معالجة الخلاف ليس بمعنى الإيلام البدني والضرب الذي فهمه الناس ، ولكن معناه ترك بيت الزوجية من جانب الرجل ، والبعد الكامل عن الدار كوسيلة لتمكين الزوجة الناشز من إدراك مآل سلوك النشوز والتقصير والنفور في الحياة الزوجية ليوضح لها أن ذلك لا بد أن ينتهي إلى الفراق والطلاق وكل ما يترتب عليه من آثار خطيرة خاصة إذا كان بينهما أطفال .
فإذا خاف الزوج نشوز زوجته عالج ذلك بطريقة متميزة رفيعة المستوى ، حيث يبدأ وعظها وبيان خطورة طريق النشوز ثم عليه إن لم تمتثل أن يهجرها في المضجع فإن لم يصلح الهجر في المضجع يأتي الهجر الكلي في البيت ، ( أو ترك البيت للزوجة وخروج الرجل منه كما فعل المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) .
فإن معنى الترك والمفارقة في قوله تعالى { وَاضْرِبُوهُنَّ } أولى عن معنى الضرب أي الأذى الجسدي والقهر والإذلال النفسي ، لأن ذلك ليس من طبيعة العلاقة الزوجية الكريمة ، ولا من طبيعة علاقة الكرامة الإنسانية ، وليس سبيلاً مفهوماً إلى تحقيق المودة والرحمة والولاء والسكن واللباس بين الأزواج .
- والفهم المقاصدي المتناسق مع المقاصد العامة لعلاج النشوز وخطواته ، والمقاصد الشرعية من الحياة الزوجية تؤيده السنة النبوية المطهرة الفعلية حين فارق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم منازل نسائه واعتزلهن مدة شهر ليدركن النتائج المترتبة على العصيان دون أن يلجأ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أي شيء من اللطم أو الإهانة ، أو الضرب كما فهم هذا الدكتور الذي يشفي حاجة في نفسه تحت غطاء تطبيق أمر الله بضرب زوجته وإيلامها .
- وهذا الفهم المقاصدي فقد غاب عن الرجال سابقاً لأنهم يرون أن الضرب بمعنى الإيلام الجسدي يحقق لهم أهدافا ذاتية ويشبع رغباتهم النفسية والبدنية والاجتماعية التي غلفوها بهذا الفهم الخاطئ لمعنى الضرب في قوله تعالى { وَاضْرِبُوهُنَّ }
- وقد أحصى الباحث وجوه المعاني التي جاء فيها لفظ ( الضرب ) ومشتقاته في القرآن الكريم فوجدها ستة عشر وجهاً كما يلي :
1- { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا } [النحل : 76]
2- { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } [النساء : 101]
3 - { فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } [الكهف : 11]
4 - { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ } [الزخرف : 5]
5- { كذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } [الرعد : 17]
6- { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [النور : 31]
7- { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا } [ط-ه : 77]
8- { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال : 12]
9- { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } [البقرة : 61]
10- { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } [ص : 44]
11- { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } [محمد : 4]
12- { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [الحديد : 13]
13- { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } [النور : 31]
14- { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [محمد : 27]
15- { فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ } [البقرة : 60]
16- { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ } [الصافات : 93]
- فإذا أمعنا النظر في الآيات السابقة نجد أن معنى الضرب فيها : العزل ، والمفارقة والإبعاد ، والترك
- فالشيء يضرب مثلا : أي يستخلص ويميز حتى يصبح جلياً واضحاً .
-والضرب في الأرض هو السفر والمفارقة .
- والضرب على الأذن : هو منعها من السماع .
- وضرب الصفح عن الذكر : هو الإبعاد والإهمال والترك .
- وضرب الحق والباطل تمييزهما وتجليتهما مثلاً .
- وضرب الخُمُر على الجيوب : هو ستر الصدر ومنعه من الرؤية .
- وضرب الطريق في البحر : شق ودفع الماء جانباً .
- والضرب بالسور بينهم : عزلهم ومنعهم عن بعضهم بعضاً .
- وضرب الذل والمسكنة عليهم : نزولهما بهم .
- وضرب الأعناق والبنان : بترها وفصلها ، وأبعادها عن الجسد .
- أما باقي ما ورد من كلمة ( الضرب ) ومشتقاتها فيما سبق من ضرب الأرجل ، والوجوه ، وضرب الحجر ، وضرب الضغث ، وضرب الأصنام باليمين ، فهي بمعنى دفع الشيء بقوة وخبطة ولطمه .
- وهكذا فإن عامة معاني كلمة ( الضرب ) في السياق القرآني هي بمعنى العزل والمفارقة والإبعاد والدفع .
- فما هو المعنى المناسب لكلمة الضرب في سياق فض النزاع بين الزوجين واستعادة روح_ غير مفهوم هذه الجملة_ في قوله تعالى