بسم الله الرحمن الرحيم ) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ( صدق الله العظيم(الأحزاب 37-38).
من المخاطر التي تفشت في الأمة الإسلامية أنه إذا استعجم على بعض المسلمين فهم أمر في القرآن تكلفوا وابتدعوا لصعوبة تفهم أحكامه وأسباب نزول الآيات والبعد عن أسرار اللغة العربية وأساليب البيان بها فيجرهم ذلك إلى الفهم الخاطئ لكثير من آيات الذكر الحكيم ، فنجد الكثير من المفسرين قد ركنوا إلى التكلف في التفسير والتأويل لِما استعصى على فهمهم من آيات القرآن فاعتمدوا على الإسرائيليات وما دسته اليهودية والمجوسية والفلسفات اليونانية والهندية من أفكاره وروايات وقصص مكذوبة في تفسير ما غمض من آيات القرآن ، مما نحى بالكثيرين من المسلمين إلى إساءة فهم العديد من آيات القرآن الحكيم ، ومما أساء الكثيرون فهمه هاتان الآيتان من سورة الأحزاب اللتان تناولتا أمر تزويج رب اللعالمين لرسوله الكريم من السيدة زينب بنت جحش (رضي الله عنها) وبالتحديد جملة ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) ولنستعرض آراء المفسرين في هاتين الآيتين ونرد عليها ثم نتوجه بالتفسير إلى وجهته الصحيحة مستهدين بنور الله الهادي وروح كتابه الكريم ودسنور المؤمنين إلى يوم الدين .
روايات ابن جرير الطبري :
الأولى : وَذَلِكَ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْت جَحْش فِيمَا ذُكِرَ ، رَآهَا رَسُول اللَّه (r) فَأَعْجَبَتْهُ وَهِيَ فِي حِبَال مَوْلَاهُ , فَأُلْقِيَ فِي نَفْس زَيْد كَرَاهَتهَا لِمَا عَلِمَ اللَّه مِمَّا وَقَعَ فِي نَفْس نَبِيّه مَا وَقَعَ , فَأَرَادَ زيد فِرَاقَهَا , فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه (r) , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه (r) : {أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك} وَهُوَ (r) يُحِبّ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ لِيَنْكِحَهَا , {وَاتَّقِ اللَّهَ} وَخَفْ اللَّه ـ يا زيد ـ فِي زَوْجَتك { وَتُخْفِي فِي نَفْسك مَا اللَّه مُبْدِيه } يَقُول : وَتُخْفِي فِي نَفْسك ـ يا محمد ـ مَحَبَّة فِرَاقه إِيَّاهَا لِتَتَزَوَّجهَا إِنْ هُوَ فَارَقَهَا , وَاللَّه مُبْدٍ مَا تُخْفِي فِي نَفْسك مِنْ ذَلِكَ { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } وَتَخَاف أَنْ يَقُول النَّاس : أَمَرَ رَجُلًا بِطَلَاقِ امْرَأَته وَنَكَحَهَا حِين طَلَّقَهَا , وَاللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ مِنَ النَّاس .
هل تزوج الرسول أمرأة لحسنها؟ أم أن جميع زيجاته كانت لغايات اجتماعية أو تشريعية أو سياسية؟ ومنذ متى كان الرسول تابع لشهواته؟ ومنذ متى كان ما يُبطن الرسول يختلف عما يُظهره؟ هل هو منافق؟ هل يأمرنا بأشياء ويخالفها ، وهو الذي أمرنا بغض البصر وهو الذي أعلمنا أن كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه؟
الثانية : كَانَ النَّبِيّ (r) قَدْ زَوَّجَ زَيْد بْن حَارِثَة ، زَيْنَب بِنْت جَحْش ابْنَة عَمَّته , فَخَرَجَ رَسُول اللَّه (r) يَوْمًا يُرِيدهُ وَعَلَى الْبَاب سِتْر مِنْ شَعْر , فَرَفَعَتْ الرِّيح السِّتْر فَانْكَشَفَ وَهِيَ فِي حُجْرَتهَا حَاسِرَة , فَوَقَعَ إِعْجَابهَا فِي قَلْب النَّبِيّ (r) ; فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ كُرِّهَتْ إِلَى الْآخَر , فَجَاءَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه , إِنِّي أُرِيد أَنْ أُفَارِقَ صَاحِبَتِي , قَالَ : " مَالَك , أَرَابَك مِنْهَا شَيْءٌ ؟ " قَالَ : لَا , وَاللَّه مَا رَابَنِي مِنْهَا شَيْء يَا رَسُولَ اللَّه , وَلَا رَأَيْت إِلَّا خَيْرًا , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه (r) : " أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَاتَّقِ اللَّهَ " ، {وَتُخْفِي فِي نَفْسك مَا اللَّه مُبْدِيه} تُخْفِي فِي نَفْسك إِنْ فَارَقَهَا تَزَوَّجْتهَا .
وأقول: ما كان الله سبحانه وتعالى ليهدم بيتا مسلما من أجل شهوة نبيه
الثالثة : قَالَ : كَانَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْلَمَ نَبِيّه (r) أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجه , فَلَمَّا أَتَاهُ زَيْد يَشْكُوهَا قَالَ : اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك , قَالَ اللَّه : {وَتُخْفِي فِي نَفْسك مَا اللَّه مُبْدِيه} أي تخفي ما علمت به من أن الطلاق سيقع لا محالة .
وأقول: منذ متي يعاند الرسول أو يحاول أن يغير قدر الله إن علمه .
الرابعة : قال : جاء رسول الله (r) بيت زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد ، ربما فقده الساعة ، فيقول : أين زيد ؟ فجاء منزله يطلبه ، فلم يجده وقامت إليه زينب بنت جحش فضلا (أي تلبس ثوبا واحدا) فأعرض عنها رسول الله (r) فقالت : ليس هو هنا يا رسول الله فادخل بأبي أنت وأمي ، فأبى رسول الله أن يدخل ، وإنما عجلت زينب أن تلبس إذ قيل لها أن رسول الله على الباب فوثبت عجلة ، فأعجب رسول الله بها فولّى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يُفهم إلا أنه أعلن : سبحان الله ، سبحان مُصَرّف القلوب ، قال : فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله أتى منزله ، فقال زيد : ألا قلتِ له أدخل ؟ فقالت : قد عرضت عليه ذلك فأبى ، قال : سمعتيه يقول شيء ؟ قالت : سمعته يقول حين ولى : سبحان الله ، سبحان مُصَرّف القلوب ، فخرج زيد حتى أتى رسول الله فقال : بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لعل زينب أعجبتك فأفارقها ، فقال : " أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك " ففقارقها زيد واعتزلها ، فحلت ، فبينما رسول الله (r) يتحدث مع عائشة إذ أخذته غشية فسُرِّى عته وهو يبتسم ويقول : من يذهب إلى زينب يبشرها ويقول أن الله زوجنيها وتلا رسول الله الآية ... قالت عائشة : خرجت سلمى خادم رسول الله (r) تخبرها بذلك فأعطتها أوضاحا.
وأقول: من الطبيعي أن يسأل زيد "هل قال شيئا؟ أو هل ترك رسالة" وليس "هل سمعتيه يقول شيئا" ، ثم من أين أتى زيد بشكه في إعجاب الرسول بزينب؟ هل هو وحي دون وحي الأنبياء؟ أم فراسة لم يُشهد لزيد بها من قبل؟ مما يدل على أن القصة ألفت أو وُضِعَت بعد نزول الآية
الخامسة : قال صاحب (فتح البيان في مقاصد القرآن) " وقد اختلف في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين ومنهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي (r) وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد وكان حريصا على أن يطلقها فيتزوجها هو ، ثم أن زيدا لما أخبره يريد فراقها وشكا منها غلظة القول وعصيان الأمر والأذى باللسان والتعظم بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك ، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها ، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه فعل ما يجب عليه من الأمر بالمعروف .
وأقول: هل هذا من قال فيه الله "إنك لعلى خلق عظيم".
رواية الزمخشري المذكورة في كتابه ((الكشاف في حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل)) :
"أمسك عليك زوجك" يعني زينب بنت جحش (رضي الله عنها) وذلك أن رسول الله (r) أبصرها بعد أن أنكحها زيد فوقعت في نفسه فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها ولو أرادتها لاختطبها ، وسمعت زينب التسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله ، فقال زيد لرسول الله : أني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : مالك؟ أرابك منها شيء؟ قال : لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني ، فقال : "أمسك عليك زوجك واتق الله" ، ثم طلقها ، فلما اعتدت قال رسول الله : ما أجد أحد أوثق في نفسي منك ، أخطب علي زينب ، قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها .....وقلت : يا زينب ... أبشري إن رسول الله يخطبك ... ففرحت وقالت : ما أنا صانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن " زوجناكها " ........ (قلت) ما الذي أخفى في نفسه (قلت) تعلق قلبه بها ، وقيل علمه بأن زيد سيطلقها وسينكحها ... فإن (قلت) ماذا أراد الله أن يقول حين قال له زيد أريد مفارقتها ..... (قلت) كان الذي أراده الله منه أن يصمت عند ذلك أو يقول له أنت أعلم بشأنك حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته .
وأقول: وهل يعرف الزمخشري - مع تقديرينا الشديد له - إرادة الله ورسوله لا يعرفها؟
(رأي أبي محمد الحين البغوي في تفسيره ((معالم التنزيل)) : أن الله أعلم النبي أنها ستكون زوجته ، وإنما أخفى ذلك استحياء أن يخبر زيدا أن التي تحتك ستكون زوجتى وهو الأولى من الآراء ، وأن الرأي أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها ... هو رأي ضعيف لا يناسب مقام النبوة . ومثله قال الألوسي الذي زاد : وهذا التفسير مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه (r) ولم يظهر غير تزويجها .
رأي ابن الحسن الطبرسي (من علماء الشيعة) في كتابه ((لباب التأويل في معاني التنزيل)) : الذي أخفاه في نفسه هو : إن طلقها زيد تزوجها ، وخشى لائمة الناس أن يقولوا : أمره بطلاقها ثم تزوجها ، ... فلما جاء زيد وقال له : أريد أن أطلق زينب ، قال : أمسك عليك زوجك ، فقل سبحانه : لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك ، وهذا هو المراد وهو الذي عوتب عليه ولو كان الذي أخفى محبتها أو إرادة طلاقها لأظهره الله تعالى مع وعده أنه يبديه .
رأي ابن الأثير في كتابه ((الكامل ج2)) : ذكر رواية الطبري الثانية ـ السابق ذكرها ـ إلا أنه زاد : وكُرِّهَت إلى زيد فلم يستطع أن يقربها ..... ففارقها زيد وحلت ، وأنزل الوحي على النبي فقال من يبشر زينب أن الله زوجنيها .
رأي ابن كثير في كتابه (( البداية والنهاية ج3)) : ..... والذي كان الله قد أعلم أنها ستكون من أزواجه فهو الذي كان في نفسه عليه السلام ، وقد تكلم كثير من السلف هاهنا بآثار غريبة تركناها، وقال الله تعالى "فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها" ذلك أن زيدا طلقها فلما انقضت عدتها بعث إليها رسول الله من يخطبها إلى نفسه ثم تزوجها وكان الذي زوجه منها رب العالمين تبارك وتعالى كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك ، ثم ذكر ابن كثير رواية التي أوردها الزمخشري في كتابه .
أقول: الزواج تم بالأمر المباشر من الله عزّ وجلّ فلا محل هنا للخطبة أو الاستئذان
تفسير الجلالين : "وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ" مظهره من محبتها وأن لو فارقها زيد تزوجتها "وَتَخْشَى النَّاسَ" أن يقولوا تزوج زوجة ابنه .
تفسير القرطبي : وافق الطبري وروى رواياته إلا أنه قال ((فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ (r) هَوِيَ زَيْنَب اِمْرَأَة زَيْد - وَرُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْض الْمُجَّان لَفْظ عَشِقَ - فَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُر عَنْ جَاهِل بِعِصْمَةِ النَّبِيّ (r) عَنْ مِثْل هَذَا , أَوْ مُسْتَخِفّ بِحُرْمَتِهِ .)) ثم أورد روايات تستند إلى صحيح مسلم معناها أن الرسول (r) بعث زيدا ليخطب السيدة زينب له بعدما أنتهت عدتها فاستأذنت السيدة زينب في أن تستخير ربها فنزلت الآيتين المذكورتين فدخل عليها الرسول (r) بغير إذن وأولم وليمة كبيرة .
التفسير الصحيح بما يتفق مع أسس وأهداف الشريعة الإسلامية ونصوص القرآن الكريم وبلاغته كما يشرحه الدكتور محمد بديع شريف(*) في كتابه ((قصة زينب بنت جحش)) : وصفوة القول أن هناك رأيان أولهما : أن الله أعلمه أن زيدا سيطلقها وستكون زوجة له ، والثاني : أنه أخفى محبة زينب وإرادة طلاقها وقد أمره الله أن يصمت حتى يفرغ زيد من مفارقتها فعاتب الله نبيه على قوله "أمسك عليك زوجك واتق الله" ، قال العلامة ابن العربي أن أخبار الأنبياء مروية وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين : إما غبي عن مقدارهم ، وإما بدعي لا رأي له فيدس تحت المقال الدواهي ولا يراعي الأدلة ولا النواهي ...، وهذه الروايات كلها ساقطة . وأقول () : من أين ورد القول بأن الله أراد من نبيه أن يصمت عندما قال زيد : أريد مفارقتها ...... أليس في هذا القول اتهام بأن النبي (r) يُظهر خلاف ما يُبطن ؟ أليس في هذا جهل بمكانة النبي وبره وسمو الرسالة التي بعث بها ؟ ثم من كان بين محمد ونفسه في إخفاء محبتها وإرادة طلاقها ؟ وأين هو الوحي الذي نزل بأن زيدا سيطلقها وستكون زوجة للنبي ؟ . ولننظر في مفردات الآيتين :
)وَإِذْ تَقُولُ( الخطاب موجه إلى النبي (r) )لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ( أي أعطاه نعمة الإسلام )وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ( أي منحته الحرية بعتقه من الرق )أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ( أي احتفظ بزوجك )وَاتَّقِ اللَّهَ( أي خف الله ـ والأمران يدلان على أن شقاقا حدث بين الزوجين وتطبيقا لأمر الله الوارد في الآية 35 من سورة النساء وأن النبي أهل للإثنين فإن زيدا مولاه وزينب ابنة عمته وهو الذي زوجهما وهو ولي أمرهما تولى النبي إصلاح ذات بينهما بعدما اشتد الشقاق بين الزوجين بعد زواج دام 13 سنة لم ينجبا أثناءها ـ وفي أمر)أَمْسِكَْ( دليل على حرص النبي (r) على بقاء زينب بعصمة زيد وفي الأمر )وَاتَّقِ اللَّهَ( تذكير لزيد بنعمة الإسلام التي من أجَلّ فضائلها الاعتصام بالرابطة الزوجية ، والمعنى : خف الله في حق رابطة زوجية استمرت 13 سنة )وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ( أي وتضمر في نفسك يا زيد )مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ( ما الله مظهره على لسانك في شكواك )وَتَخْشَى النَّاسَ( أي تخاف قالة الناس ، ومتعلق الإخفاء والخشية هو زيد ، والواو في )وَتُخْفِي( و )وَتَخْشَى( إما للحال وإما للعطف ، فإذا اعتبرناها للحال يكون المعنى : أمسك عليك زوجك يا زيد واتق الله الذي أظهر ما تخفيه في نفسك من إصرارك على فراقها وما تبديه من شكواك المتكررة ولكنك تخشى قالة الناس حول هذا الإصرار والله أحق أن تخشاه ، أما إذا اعتبرنا الواو للعطف فتكون جملتا )وَتُخْفِي( و )وَتَخْشَى( معطوفتان على الجملتين )أَمْسِكَْ( و )وَاتَّقِ( وهو ما يتطلبه سياق التلاوة لأن الآية نزلت بحق زيد والأسلوب البلاغي للقرآن يقتضي أن يستمر مقول القول حتى النهاية التي يكتمل بها المعنى بلا وقف بعد )وَاتَّقِ اللَّهَ( وبعبارة أوضح وأكثر تفصيلا يكون المعنى المقصود : احتفظ يا زيد بزوجك واتق الله الله في أمرها ولا تفشي أسرار الزوجية بينكما بإكثار شكواك التى أظهر الله بعضها على لسانك في أحاديثك إلى رسول الله وخف الله في إصرارك على فراقها ولا تخشى قالة الناس في عدم قدرتك على أن تكون سيد بيتك وأن زوجتك تؤذيك بترفعها عليك فإن الذي أنعم عليك بالإسلام وجعلك بمكانة الكفؤ لها وجعل بينكما مودة ورحمة أولى بأن ترعى شريعته وأحق بالخشية من الناس ، )فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا( أي بلغ زيد منتهى ما في نفسه من حاجته فيها بحيث ملها وأصبح لا يريدها لتعاليها عليه ، )زَوَّجْنَاكَهَا( لمّا تم الطلاق لاستحالة العشرة الزوجية وأصبحت هذه المرأة الفاضلة مهيضة الجناح لا عائل لها وهدفا لقالة الناس فنزل الوحي بإضافتها إلى بيت النبوة بأمر من الله لا دخل ولا شهوة فيه من رسول الله وإنما لغاية تشريعية جديدة لإبطال تقاليد الجاهلية في مساواة ولد التبني وزوجته بولد النسب وزوجته )لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا( لرفع الضيق أو المشقة أو الإثم في زواج المتبني من أرملة أو مطلقة ابنه المتبنى إذ أن التشريع الإسلامي قرر أن الولد المتبنى غير الولد الصلبي لا تحرُم أرملته أو مطلقته ، )مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ( في تزويجه منابنه بالتبني )سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ( أي شريعته الجديدة التي يجب أن تتبع في هذه الناحية الاجتماعية من تحليل أرملة أو مطلقة المتبنى عكس ما كان ساريا في الأمم السابقة من تحريمها على الأب .
وصفوة القول :
أن أسلوب الآية البلاغي منصّب على مخاطبة زيد ـ من جانب الرسول ـ من أول قوله تعالى )أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ( إلى آخر قوله )وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ( ومنصّب على مخاطبة النبي (r) ـ من جانب الله عز وجل ـ من أول قوله تعالى )فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا( إلى آخر قوله تعالى )وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(
والله أعلى وأعلم
(*) عراقي حصل على العالمية في الشريعة من بغداد س1927 ، ثم على إجازة التدريس من دار علوم القاهرة س1934 ، ثم على الدكتوراة في التاريخ الإسلامي س1941 ، ثم على الدكتوراة في القانون من القاهرة س1945 ، له مؤلفات كثيرة منها "المساواة في الإسلام" و سلسلة "مع القرآن" .