عمر بن عبد العزيز
هو رجل، وإن لم ينتم لعصر الوحي تاريخياً – إذ تفصله عنه عشرات الأعوام – فإنه
بقداسة روحه، وجلال نسكه، ينتمي إليه أروع، واجمع، وأوثق ما يكون الانتماء...
إنه لا ينتمي لعصر الوحي فحسب... بل انه الرجل الذي حاول نقل عصر الوحي بمثله و فضائله إلى دنيا مفتونة مضطربة. ثم نجح في محاولته نجاحاً يبهر الألباب..!!
فهل ندهش ونذهل لأنه بمفرده حاول تحقيق هذا المستحيل..؟؟!!
أم ندهش ونذهل لأنه بمفرده قد حقق المستحيل فعلاً..وجعل من الملك العضوض الذي شاده الأمويون عبر ستين عاماً، خلافة أوابة، عادلة، بارة، تمثل كل فضائل وشمائل عصر النبوة والوحي..؟!
و متى..؟!
ليس في عشرين عاما.. ولا في عشرة أعوام..بل في عامين وخمسة أشهر، وبضعة أيام..!!
ذلكم هو معجزة الإسلام – عمر بن عبد العزيز..!!
النبوءة و الطفولة المعجزة
عندما كان ((عبد العزيز بن مروان)) يحكم مصر والياً عليها لأخيه الخليفة الأموي ((عبد الملك بن مروان)) ، حيث لبث في ولايته هذه عشرين عاما، غادرت ((أم عاصم)) المدينة المنورة حيث كانت تقيم، لاحقة بزوجها ((عبد العزيز)) في مصر، مصطحبة معها ولدهما الحبيب ((عمر))...
و ذات يوم، دخل عمر حظيرة الخيل، فركضه جواد، فشجه وأدماه، وحمل الطفل الجريح إلى داره، وما كادت أمه تبصره حتى أخذها الروع، وفجعها المشهد ، و استدعت أباه، فجاء على عجل، ورأى الدم يغطي وجه ولده، والشجة الفاغرة تنز..
و قبل إن يغشاه الأسى ، طوفت بخاطره ذكرى ألقت على محياه تهللاً ، وعلى ثغره ابتساماً...
و لما فرغ من تضميد جرح طفله الحبيب، ربت كتف زوجته والبسمة تزداد على شفتيه اتساعاً وتألقاً، وقال:
((أبشري يا أم عاصم))!!
ثم بسط يمناه يداعب بها رأس ولده، وعيناه تحدقان في وجهه الشاحب الوديع، وراح يقول له:
((إن تكن أشج بني أمية، إنك إذن لسعيد))..!!
فماذا كانت الذكرى التي أثارها هذا الحدث؟
و ما شأن النبوءة التي أومأت إليها كلمات عبد العزيز..؟؟
لنعد إلى الوراء كي نشهد النبأ من أوله..
في تلك الليلة الشاتية، حيث المدينة ساكنة ساجية، قد أوى الناس فيها إلى دورهم ومضاجعهم يلتمسون الدفء من ذلك الصقيع الراعد، إلا رجلاً واحداً أفزعته مسؤولياته – وقد كانت دائماً تفزعه – فنضا عنه غطاءه، وخرج إلى طرقات المدينة التي خلت من كل حي، ولم يبق بها سوى كتل الظلام، وعواء الريح..
خرج الرجل وحده يتعسس، فلعل هناك جائعاً، أو مريضاً، أو مقهوراً، أو ابن سبيل...
لعل هناك شأناً من شئون الناس قد غاب عنه، والله سائله عنه ومحاسبه عليه..فالرجل خليفة للمسلمين وأمير المؤمنين. أجل..إنه – عمر بن الخطاب – رضي الله عنه وأرضاه.
وطال تعسسه وتطوافه حتى أدركه التعب ووخزه البرد. فلاذ بجدار دار صغيرة فقيرة، وجلس يستريح قليلا ليستأنف خطوه فيما بعد إلى المسجد، فقد أوشك الفجر أن يجئ..
وإذ هو في متكئه، سمع حواراً داخل الدار.
كان الحوار يجري بين أم وابنتها حول ذلك القدر الضحل من اللبن، وكانت الأم تدعو ابنتها كي تخلط اللبن بالماء، حتى يزداد و يفي ثمنه بحاجات يومهما الوافد..سمع أمير المؤمنين حوارهما:
الأم تقول لابنتها:
"يا بنية، أمرقي - أي اخلطي - اللبن بالماء ". والبنت تجيب أمها:
"كيف أمرق، وقد نهى أمير المؤمنين عن المرق؟؟".. وتعود الأم قائلة:
"إن الناس يمرقون، فامرقي، فما يدري أمير المؤمنين بنا إن مرقنا، ولا يرانا.."
و تجيبها الفتاة:
"يا أماه ، إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فرب أمير المؤمنين يرانا!!".
و اغرورقت عينا أمير المؤمنين بدموع الغبطة والفرح ، وسارع إلى المسجد ، فصلى الفجر بأصحابه ، ثم عاد مسرعاً إلى داره، ودعا ابنه ((عاصماً)) وأمره إن يأتيه بحقيقة أهل تلك الدار.
و عاد عاصم إلى أبيه بمعلومات وافية عن الأم وابنتها، و قص أمير المؤمنين على ولده ما سمعه من حوار، ثم قال له وقد كان مزمعاً على الزواج:
"أذهب يا بني فتزوجها، فما أراها إلا مباركة، ولعلها تلد رجلا يسود العرب"!!
و تزوج عاصم تلك الفتاة الفقيرة الشريفة الورعة، و أنجبت له فتاة أسموها ((ليلى)) وكنوها ((أم عاصم)). ودرجت ((أم عاصم)) هذه في شبابها التقي النقي، حتى تزوجها ((عبد العزيز بن مروان))، فولدت له ((عمر بن عبد العزيز)).
تلك إذن ذرية بعضها من بعض.. ولقد صدقت نبوءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الفتاة المباركة.
بيد أن هذا الجزء من النبوءة، لم يكن هو الذي دار بخلد ((عبد العزيز بن مروان)) حين قال لطفله الجريح:
"إن تكن اشج بني أمية، انك إذن لسعيد".
فللنبوءة بقية أخرى، هي التي استجاشت الذكرى في وعي عبد العزيز.
ذلك إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب..رأى ذات ليلة رؤيا نهض من نومه على إثرها يعجب ويقول:
"من ذلك الاشج من بني أمية، ومن ولد عمر يسمى عمر، يسير بسيرة عمر..و يملا الأرض عدلا"..؟؟!!
رأى عمر هذه الرؤيا. واستشرف ذلك الغيب قبل أن يولد حفيده ((عمر بن عبد العزيز)) بقرابة أربعين عاماً!!
وانتقل ابن الخطاب رضي الله عنه إلى الرفيق الأعلى، وظلت نبوءته هذه تدوي بين أهله وذويه الذين راحوا يتلمسون تلك العلامة في وجوه أبنائهم.
وحين ولد لعبد الله بن عمر ولده ((بلال)) وأصيب في طفولته بشجة في وجهه، حسبوه المبشر الموعود، لكن الأقدار تخطته حتى جاء اليوم الذي شج فيه وجه ابن عبد العزيز، فتذكر أبوه النبوءة القديمة، وقال قولته المفعمة بالرجاء والأمل..
((إن تكن اشج بني أمية، انك إذن لسعيد))!!
ومن هنا تبدأ إطلالتنا الواسعة على الإرهاص الذاتي لهذه الطفولة المباركة. فلقد رغب الطفل إلى أبيه أن يغادر مصر إلى المدينة ليدرس بها ويتفقه. والمدينة يومئذ منارة للعلم والصلاح، تمتلئ بالعلماء والفقهاء، والعباد والصالحين.
ويستجيب ((عبد العزيز بن مروان)) – الذي كان من خيار بني أمية وبني مروان، وأكثرهم قرباً من الهدى والتقي والصلاح – لرغبة ولده، ويرسله إلى المدينة المنورة، ويعهد به إلى واحد من كبار معلمي المدينة وفقهائها وصالحيها.. وهو ((صالح بن كيسان)).
إن طفلاً كصاحبنا، نشأ في قصور الملك والنعيم..يحمل لقب ((سمو الأمير)).. وبين يديه، بل ملء يديه من مناعم الحياة ومباهج الأيام أكثر مما يشاء، ما كان يتوقع منه – وفي طفولته على الأقل – إلا أن تحمله أشواق الطفولة ورغباتها إلى دنيا اللهو والمرح والانطلاق.
فما باله ينأى عن ذلك كله، وينزع بكل فؤاده وهواه إلى آفاق الرجال، بل حكماء الرجال..؟!
فهو كما رأينا من قبل يرغب إلى أبيه كي يرسله إلى المدينة ليتزود من فقهها وعلمها قائلا له:
"دعني اذهب إلى المدينة، فأجلس إلى فقهائها وأتأدب بآدابهم".
ثم لا يكاد ينزل بها حتى يلوذ بالشيوخ والعلماء والفقهاء. ويعكف على حفظ القرآن حتى يتم حفظه في زمن جد قصير ووجيز..و يقبل على العربية، وآدابها، وشعرها، فيستوعب من ذلك كله محصولاً وفيراً. وقد يبدو هذا النوع المبكر أمراً مألوفاً إذا هو قيس بالمستويات المتفوقة للطفولة الناجبة الزكية.
و لكن هل يبلغ مثل ذلك النبوغ من ضمير طفل ما يملؤه خشية لله، و ما يجعله يبكي وينتحب من مخافة الله..؟؟
فمعلمه ((صالح بن كيسان)) فقيه المدينة العظيم، يعطينا صورة كاملة وهو يتحدث عن طفولة ابن عبد العزيز فيقول:
"ما خبرت أحدا، الله أعظم في صدره من هذا الغلام"!!
وحين يتحدث عالم في منزلة ((ابن كيسان)) انه لم ير أحداً (الله أعظم في صدره من هذا الغلام)، فإننا نجد أنفسنا أمام نموذج إنساني نادر المثال..!!
ذلك أن هذا القدر من الورع وخشية الله وإجلاله، إنما يواتي الأفذاذ من الصالحين بعد أن يكبروا ويتقدم بهم العمر.. أما وهم غلمان صغار فهيهات، إلا أن يكون واحداً من أولئك الذين يصطنعهم الله لنفسه، ويصنعهم على عينه..!!
وفي طفولة ((ابن عبد العزيز)) نرى احتراماً للنفس، نادر المثال. فهو لا يتجنب اللهو المباح لأمثاله فحسب..بل يأخذ نفسه أخذاً وطيداً بما لا يقدر عليه سوى أولي العزم من الرجال..!!
وهو لا يتجنب من الأخطاء ما يحاسب عليه الكبار، ويغتفر للصغار..بل يتجنب منها كل خطأ كبير أو صغير.
حدث يوما أن تأخر بعض الوقت عن صلاة إحدى الفرائض مع جماعة المصلين بمسجد الرسول في المدينة. وسأله معلمه ومؤدبه ((صالح بن كيسان)) عن سبب تأخره، فأجاب الغلام في صدق: "كانت مرجلتي تمشط شعري". وقال له أستاذه في عتاب:" أو تقدم تصفيف شعرك على الصلاة؟.."
و كان ((عبد العزيز بن مروان)) قد أوصى ((صالح بن كيسان)) أن يكتب إليه دوما بكل أخبار ولده، فكتب إليه عن هذه الواقعة، فجاء أمر ((عبد العزيز)) إلى ولده أن يحلق شعر رأسه جميعه..!!
و هنا نبصر الغلام وهو يزيل أنصع مظاهر وسامته وأناقته..يفعل ذلك وهو ممتلئ النفس غبطة ورضا، ليس فقط لأنه عرف كيف يمتثل ويطيع حيث يجب الامتثال وتلزم الطاعة..بل لأنه وجد في ذلك تكفيراً عن خطئه الذي اجترحه حين ترك رغبته في استكمال أناقته ووجاهته التي أخرته بعض الوقت – لا كل الوقت – عن موعد الصلاة..!!!
ونعود فنقول: إن المعجز في هذا كله، أن بطله ليس إلا مجرد غلام.. غلام في سن اليفاع..!!
وغلام ولد في أحضان النعيم، ونشأ في دنيا حافلة بالترف والإغراء..!!
ومن أبهي مظاهر استجابته الرشيدة لتصحيح الخطأ، واستكمال الرشد، هذه الواقعة التي يرويها مؤرخو سيرته..!!
فلقد كان – في طفولته – متأثراً بموقف الأمويين من الإمام علي (كرم الله وجهه)، وبالأباطيل التي روجوها ضده. ولم يكن الغلام قد تبين بعد وجه الحق في الصراع الذي نشب بين الإمام الراشد الشهيد، وبين العائلة الأموية. وحدث يوماً أن ذكر (( عمر بن عبد العزيز)) الإمام بسوء، وانتقلت كلماته إلى شيخه الصالح ((عبيد الله بن عبد الله بن عتبة)) الذي كان – عمر – يكن له أعظم الحب والتوقير.
و ذات يوم ذهب الغلام لزيارة الشيخ، فأعرض عنه ولم يغمره بما عوده من ود..
و أدرك الغلام أن في نفس شيخه شيئاً منه، فحاول بسؤال جانبي أن يتبين الأمر، فانفجر فيه شيخه قائلاً:
" متى علمت أن الله سخط على أهل بدر، بعد أن رضي عنهم"..؟!
و فهمها الفتى الذكي الرشيد من فوره..!
فهم أن أدنى مزايا ((الإمام علي))... وأقل فضائله، وخصائصه، انه من أهل بدر الذين أخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) إن الله نظر إليهم فقال لهم:
" اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"
و صحا على هذه اللفتة من شيخه صحوة ذكية رضية، وأقبل عليه يقول له في خضوع وندم:
" معذرة إلى الله.. ثم إليك"
"والله لا أعود لمثلها أبدا"..!!!
ثم عكف على دراسة القضية من جديد بعيداً عن لغو الأمويين وأباطيلهم، حتى اهتدى إلى الصواب في يسر، وتحول إلى منافح عن الإمام العظيم.. حتى لقد جلس يوماً – كما يروي لنا بعض المؤرخين – بين نفر من العباد والصالحين راحوا يستعرضون فيما بينهم أقطاب الزهد والورع في الإسلام، فإذا ((ابن عبد العزيز)) يصدع فيهم بهذه الكلمات:
"أزهد الناس في الدنيا، علي بن أبي طالب عليه السلام" !!!
فكأن القدر، وقد أمهل بني أمية حين اغتصبوا الخلافة، وأحالوها إلى ملك عضوض، وإلى مزرعة أموية، قد قرر أن يجيئهم برجل منهم، يذيع على الملأ وثائق إدانتهم، ويرد إلى دين الله حقيقته المضيئة، وإلى دنيا الناس عافيتها الغائبة، وإلى منصب الخلافة كرامته وتقاه..!!
ثم يكون للدنيا بأسرها آية على ما يستطيع الإسلام العظيم أن يصنعه حين تتقمص روحه الغلابة المشرقة رجلاً من الناس، فتحيله إلى نور إلهي معجز. حتى حين يجئ هذا الرجل من أصلاب أولئك الذين ملأ أكثرهم الأرض فساداً وبغياً!
وعلينا الآن أن نتابع هذه الطفولة الفذة..أو بتعبير أصح، علينا أن نتجاوزها ونتخطاها، لنواجه مرحلة أخرى من مراحل تلك الحياة العجيبة المثيرة الجليلة، ريثما نبلغ فيما بعد عصر الخلافة والإعجاز!!
فتابعونا في المقال القادم بمشيئة الله تعالى