عمر بن عبد العزيز
كلما مات هرقل, قام هرقل !!
استقر الأمر(( لمعاوية رضي الله عنه)) بالشام حاكما للمسلمين, بعد استشهاد ((الإمام علي كرم الله وجهه)), ثم بعد الصلح الذي عقده مع ((الحسن بن علي)) ليحفظ به دماء المسلمين. استقر له (أي معاوية) الأمر, فراح يضع في دهاء وصبر, أساس دولة أموية طويلة العمر, ممتدة على الزمان.
ولسنا هنا بصدد تصويب أو إدانة موقف ((معاوية)) في نزاعه مع ((الإمام علي)), لكننا نقف هنا, كمدخل للموضوع, برفض ودحض الموقف الذي وقفه ((معاوية)) باستخلاف ولده ((يزيد)) وأخذه البيعة له.
هذا ((اليزيد)) الذي هدم بالانحلال والقسوة ما بناه أبوه بالدهاء والحلم, والذي سن للدولة الأموية على طول عهدها شريعة الغاب التي سارت عليها وقامت بها. ومن العجيب أن هذا الذي توسل به ((معاوية)) لاستبقاء الملك في بيت ((أبي سفيان)) توسل به القدر في الوقت نفسه لحرمان هذا البيت من الخلافة والملك إلى الأبد, بعد أربع سنوات لا غير من استخلاف (( يزيد)) ..!!
فقد مات ((يزيد)) بعد أعوام أربعة قضاها في الملك عابثا جبارا .
وفي مرض موته خلع الملك على ولده ((معاوية الثاني)) حرصا منه على أن تظل راية الخلافة خفاقة فوق بيت أبي سفيان !!
لكن القدر العظيم كان يعد مفاجأة أذهلت الدنيا ولا تزال ..
ذاك أن ((معاوية الثاني)) – ذلك الشاب التقي الورع – جمع الناس في يوم مشهور, ونهض فيهم خطيبا, فقال :
" إن جدي ((معاوية)) نازع الأمر (الخلافة)) أهله ومن هو أحق منه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , وسابقته في الإسلام, وهو ((علي بن أبي طالب)) ..ثم تقلد أبي - ((يزيد)) - الأمر من بعده, فكان غير أهل له .. ركب هواه واخلفه الأمل ..!!
و إن من أعظم الأمور علينا, علمنا بسوء منقلبه وقد قتل عترة رسول الله (صلى الله عليه وسلم), وأباح الحرم, وخرب الكعبة ..!!
وما أنا بالمتقلد أمركم, ولا المتحمل تبعاتكم .. فاختاروا لأنفسكم " ..!!!
وعكف الشاب الصالح في داره رافضا الخلافة حتى لقي ربه راضيا مرضيا ..
وهكذا, لم يحرم بيت ((أبي سفيان)) أماله في استبقاء الملك فحسب ..
بل تلقى وثيقة إدانة رهيبة من احد بنيه الأبرار !!
لقد أفضى موقف ((معاوية الثاني)) إلى زلزال وبيل أصاب حكم الأمويين بدوار خلع أفئدة جباريه, من أمثال ((عبيد الله بن زياد)), قاتل الشهيد المجيد ((الحسن بن علي )) رضي الله عنه .. فرأينا ذلك الطاغية يهرب متنكرا في ثياب امرأة حتى يصرع فيما بعد قتيلا ..!!
وتمزقت الدولة تمزقا وضعها على شفا الهاوية, وكاد الأمر ينتهي ل((عبد الله بن الزبير)) ليستقيم به على الجادة, لولا ظروف كثيرة لا مجال لتتبعها هنا, هيأت ل(( مروان بن الحكم)) أن يقفز إلى منصة الحكم وسط فتن مظلمة, ومؤامرات ماكرة..
وهكذا, انتقل الحكم من بيت ((أبي سفيان)), إلى بيت أموي أخر, هو بيت ((مروان)) .. و ((مروان)) هذا, صاحب تاريخ مريب, منذ كان رئيسا لديوان الخلافة في عهد ((عثمان)) رضي الله عنه ..
و إن له لمواقف كثيرة تدمغه وتدينه ..
ولقد بدأ تجربته الشريرة – في مصر – إذ كان واليها يومئذ ((عبد الرحمن بن جحدم)) مناصرا ل((عبد الله بن الزبير)) .. وكانت مصر حصنا يرهبه ((مروان)), فجاء إليها على رأس جيش هزم به ((عبد الرحمن بن جحدم)), ثم دعا الناس إلى بيعته طوعا وكرها .
وحين احتفظ الكثير منهم ببيعتهم السابقة لابن الزبير, ضرب أعناق ثمانين منهم ليرهب بهم الباقين .. !!
وفي الوقت نفسه, أرسل ((عبيد الله بن زياد)) إلى العراق, وأمره أن يستبيح الكوفة بعد فتحها ..!!
وغدر ب((خالد بن يزيد)) الذي كان قد أقامه وليا لعهده .. كما غدر ب((عمرو بن سعيد بن الأشدق)), الذي لولا بلاؤه العسكري لما استقر الأمر لمروان ..
وهكذا بدأت الدولة الأموية المروانية منهجها في الحكم بالقهر ... وبالغدر..!!
وقبل أن يموت ((مروان)) الذي لبث في الحكم عشرة شهور, أخذ البيعة لولده ((عبد الملك)), ومن بعده ((عبد العزيز)) .. أي انه سار على نهج معاوية, فجعلها هرقليه: كلما مات هرقل, قام هرقل !!
وينهض ((عبد الملك بن مروان)) بالأمر, ومن بعده ولده ((الوليد)), ومن بعد ((الوليد)), ((سليمان)). خلال هذا العهد تقوم – ولا سيما في عصر ((عبد الملك)) – إنجازات هائلة, لا يغمط لها قدر.
وللحق يجب ذكر أنه بالرغم سلبيات الحكم الأموي إلا أننا لا نستطيع أن ننكر ما تم في عهدهم من توسعات وفتوحات للحدود الدولة الإسلامية فكما كان على حكمهم مأخذ كان لهم أيضا قدرا من الإنجازات .
ولكن إلى جانب تلك الإنجازات يصيب الدولة من الفساد, ويصيب الناس من الرعب, ويصيب الحياة من التزييف, ما يشكل "التركة القاتلة " التي سيرزأ بها ((عمر بن عبد العزيز)) حين تضع المقادير على كاهله مسئولية الخلافة .
فماذا كانت هذه التركة الرهيبة ..؟؟
لقد تمثلت في القسوة الواغلة التي توسل بها بنو مروان لتمكين سلطانهم ..
وتمثلت في الفساد الذي غطى حياة الدولة وحياة الأمة معا.
وتمثلت في تزييف القيم والحقائق, مما جعل الناس يومئذ يعانون – لا فراغا – بل خرابا فكريا روحيا مدمرا .
فلنتابع كيف تكون هذه التركة الرهيبة ........ "تركة قاتلة"