عمر بن عبد العزيز
" . . .بل إياك نختار, يا أمير المؤمنين .." !!
وأخيرا اهتدى ((سليمان)) إلى الحل, وهو أن يوصي لإخوته بولاية العهد بعد ((عمر بن عبد العزيز)) . . وسارع ((رجاء)) لانجاز الخطة . . وكتب مع الخليفة وصيته :
" بسم الله الرحمن الرحيم . .
هذا كتاب من عبد الله ((سليمان بن عبد الملك)) أمير المؤمنين, لـ((عمر بن عبد العزيز)) . . إني قد وليته الخلافة من بعدي . . ومن بعده . . ((يزيد بن عبد الملك)) . . فاسمعوا له وأطيعوا, واتقوا الله . . ولا تختلفوا فيطمع فيكم. . "
هكذا تمت الخطوة الأولى نحو استخلاف ((عمر)), وسطر العقد الذي لن يكون للشيطان فيه نصيب !!
وسارع ((رجاء)) إلى الخطوة التالية, فدعا الأمراء الأمويين لمقابلة الخليفة, وكان كتاب الخليفة قد طوي وختم, وتواصى الخليفة ورجاء إلا يعلم بمضمونه احد ما دام الخليفة حيا . .
واحتشد الأمراء حوله, وأمرهم ((سليمان)) أن يبايعوا من استخلفه واستودع الوثيقة اسمه . . وحاول بعضهم أن يعرف قبل أن يبايع, لمن أوصى الخليفة, فزجره ((سليمان)), فبايعوا جميعا, ثم انصرفوا يتبادلون الحدس والظنون .
ولكن, أين كان ((عبد العزيز)) والأمر يقضى ويبرم ؟؟
لقد كان يعود سليمان يوما, فاستقبله قائلا:
"يا ((عمر)) . . ما أهمني أمر قط, إلا خطرت فيه ببالي" . .
ومن ذلك اليوم, وهو يحس شعورا مبهما في نفسه, شعور التوجس من أن يصنعها ((سليمان)) من وراء ظهره, ويرزأه بمسئوليات الخلافة . . هنالك, سارع إلى حيث يلتقي ب((رجاء بن حيوة)), ويقول له متوسلا:
"يا رجاء, إني أرى أمير المؤمنين في الموت, ولا أحسبه إلا سيعهد . . وإني أناشدك الله إذا ذكرني بشئ من ذلك أن تصرفه عني . . وإن لم يذكرني, ألا تذكرني له في هذا الأمر أبدا" . .
وكان على ((رجاء)) أن يستخدم ذكاءه في انتزاع هذا الإحساس من نفس ((عمر)), فهو يعلم أنه إذا تحول شعوره هذا إلى مجرد ظن قوي بأن الخليفة عهد إليه, فسيسعى إلى الخليفة معتذرا ومتنصلا, بل ربما غادر البلاد كلها إلى حيث لا يعرف له مقر أو مقام . .
من أجل ذلك أدى ((رجاء)) دوره بدهاء عظيم حين أجاب ((عمر)) قائلا:
" لقد ذخب ظنك مذهبا بعيدا, ما كنت أحسبك تذهب إليه . . أتظن بني عبد الملك يدخلونك في أمورهم ؟؟ "
وتهلل وجه ((عمر)) . .وانصرف عن ((رجاء)) . . الذي تهلل وجهه هو الأخر, وراح يفرك كفيه مغتبطا مسرورا, فقد ربح الجولة الأولى مع الهارب من الملك والمجد والخلافة . . .!!!
وذهب إليه ((هشام بن عبد الملك)) أخو الخليفة ((سليمان)), وكان يتطلع إلى المنصب في رغبة ضارية . .
قال ل((رجاء)) :
"يا رجاء, إن لي معك حرمة ومودة, فأنبئني بهذا الأمر: إن كان صائرا إلىّ علمت . . وان كان لغيري تكلمت . . ولك على العهد ألا اذكر من ذلك شيئا أبدا " ..
وكان جواب الشيخ الجليل له: إن الخليفة قد ائتمنه وأخذ عليه العهد ألا يتكلم . .
وانصرف عنه ((هشام)) حيران آسفا, يساءل نفسه:
" إذا كنت قد نحيت عنها, فإلى من يا ترى؟ وهل ستخرج الخلافة من بني عبد الملك . . ؟؟ "
ويذهب ((رجاء)) ذات يوم ليعود الخليفة, فيجده في لحظاته الأخيرة من حياته, فيجلس إلى جواره حتى تفيض روحه فيسجيه . . ويتكتم على الخبر في ثبات وطيد, مهيئا الظروف لإعلان الخليفة الجديد, زافا مع إعلانه هذا أعظم البشريات لدين الله, ولدنيا الناس . .!!
ولنصغ إليه يكمل النبأ ويصف المشهد:
" . . . وخرجت, فأرسلت إلى ((كعب بن حامد العبسي)) – رئيس الشرطة – ليجمع أهل بيت أمير المؤمنين . . . فاجتمعوا في مسجد ((دابق)), فقلت لهم:
"بايعوا .."
قالوا: "قد بايعنا مرة, أنبايع أخرى . .؟؟"
قلت لهم: " هذه رغبة أمير المؤمنين, فبايعوا على من عهد إليه في هذا الكتاب المختوم."
فبايعوا رجلا, رجلا .
فلما بايعوا رأيت أني قد أحكمت الأمر, فقلت لهم : "إن الخليفة قد مات . . ومضيت أقرأ عليهم الكتاب " . . !!
إنه ما دام النظام المعمول به في منهج الأمويين هو الاستخلاف, فإن العمل الذي
أنجزه ((رجاء بن حيوة)) لعظيم, جد عظيم . . فالرجل الذي اختير للخلافة هذه المرة, ليس ثمة من طرازه سواه . .
إنه رجل, لو أن أروع ما عرف التاريخ الإنساني كله من ديمقراطية وشورى أراد أن يختار له نظيرا لأعياه وجود النظير . .!!
ومع ذلك, فسوف نراه عما قريب, ينتهز أول فرصة مواتية ليحاول خلع الخلافة من عنقه, وليرد الأمر إلى المسلمين يختارون من يشاءون . .!!
رأينا كيف بايعه الأمراء الأمويون بعد أن فاجأهم كتاب الخليفة الذي قرأه عليهم ((رجاء)) .. وكان ((هشام)) . . فيمن بايع على مضض . . إذ تقدم من ((عمر)) وهو يقول :
" إنا لله وإنا إليه راجعون, إذ نحيت عني .. !!"
فأجابه ((عمر)) :
" بل, إنا لله وإنا إليه راجعون, إذ صارت إلىّ , وأنا لها كاره " !!
ولم يكد يفيق من غمرة المفاجأة, حتى راح يرتجف كعصفور غطته الثلوج, واستقبل ((رجاء بن حيوة)) يقول له في عتاب :
" ألم أناشدك الله, يا رجاء ؟! " ..
ثم سار إلى الخليفة المسجي, فصلى عليه, وشيعه إلى مثواه . . وعاد يعزي أهل بيته فيه, ويتلقى فيه العزاء. وفي الغداة – وكان النبأ قد طار إلى كثير من بلاد الشام, حيث سارع خلق كثيرون إلى ((دابق)) – دخل أمير المؤمنين المسجد فإذا هو غاص بحشود هائلة من الوافدين, فرأى الخليفة أنها فرصته للخلاص من المنصب الكبير قبل أن يتشبث بكاهله.
وفجأة صعد المنبر, وخطب في الناس:
" . . . أما بعد, فقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه, وعلى غير مشورة من المسلمين . . وإني اخلع بيعة من بايعني, فاختاروا لأنفسكم " ..!!
ولعله قدر أن المفاجأة ستذهل الناس, فتعقد ألسنتهم على الكلام ولو لحظات. يستطيع هو خلالها أن ينجو بنفسه, مبررا صمتهم بقبول تنازله . . !!
بيد انه لم يكد يفرغ من نطق العبارة : "فاختاروا لأنفسكم" , حتى كان المسجد يهتز بدمدمة رهيبة, أطلقتها الحناجر الصائحة الصادحة :
" . . .بل إياك نختار, يا أمير المؤمنين .." !!
واندفعت الجموع التي بداخل المسجد, والجموع التي كانت خارجه, صوب المنبر الذي كادت تصهره أنفاسهم الحارة . . وهبط ((عمر بن عبد العزيز)) درج المنبر, محاولا أن يجد له وسط الجموع طريقا.
كانت أصواتهم الصادعة المبايعة, قد حولت المناسبة إلى مهرجان . . وراحت أذرعتهم المشرعة تلوح وتخفق, كأنها الرايات الظافرة, وعيونهم المغتبطة تبرق بفرحة العمر وبهجة الحياة . .
وراح – هو – يجهش بالبكاء . . !!