عمر بن عبد العزيز
أين أجد أمير المؤمنين . .؟؟!
لقد احتوته المسئولية في خضمها, فنسي نفسه, وأهله, ودنياه, وعالمه . . نسي كل شيء سواها !! بل نسي حقه في استشعار الرضا والأمن جزاء ما يقدم لدين الله ودنيا الناس من ولاء وبر . . حتى حقه هذا, نسيه في غمرة خوفه المشبوب من الله !!
لم يعد يذكر سوى مسئوليته الفادحة, وبدت له أعماله الشامخات كأنها ليست شيئا مذكورا . . وسيطرت على شعوره وفكره صورة واحدة – تلك هي صورة موقفه بين يدي الله سبحانه, يسأله عن كل شعيرة من دينه, وعن كل فرد من عباده . . !!
تقول ((فاطمة)) زوجته :
" لقد كان يذكر الله في فراشه, فينتفض انتفاضة العصفور من شدة الخوف, حتى أقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم " !!
ويقول ((علي بن يزيد)) :
" كان يبدو وكأن النار لم تخلق إلا له" !!
ويقول ((ميمون بن مهران)):
" رأيته مرة يبكي, فإذا هو يبكي دما" !!
ولقد أصبح يستحي من ربه أن يرى في فمه لقمة شهية . . أو أن يرى على جسده ثوبا ناعما . . بل أن ترى على شفتيه ضحكة – مجرد ضحكة . . !
فمنذ ولي الخلافة إلى أن لقى ربه, لم يُرى ضاحكا. والرجل الذي كان قبل الخلافة بدقائق متأنقا, فواح العبير, قد جعلته المسئولية في لمح البصر إنسانا آخر, أشعث, أغبر . . تماما مثل جده العظيم ((عمر بن الخطاب)), لو لقيه من لا يعرفه من الناس, لسأله :
" أين أجد أمير المؤمنين . .؟؟!"
تقول زوجته ((فاطمة)) وقد سئلت عن عبادته: " والله ما كان بأكثر الناس صلاة ولا أكثرهم صياما. ولكني والله, ما رأيت أحدا أخوف لله منه . . " !!
أجل . . لو كانت مخاوفه هذه مخاوف ((عابد)) يخشى التقصير في عبادته, لوجدت تلك المخاوف مرفأها سريعا, لكنها مخاوف ((مسئول)) يرى الله قد ائتمنه على الدين والدنيا . .على الناس, والزرع, والأنعام . . وهكذا كان استغراقه في مسئوليته’ واستغراقها
إياه, حقيقة تتحدى كل وصف, وتفوق كل مبالغة . .
وإنا لنشهد صور هذا الاستغراق تتوالى على جميع مستويات حياته – خليفة, وزوجا, وأبا, وأخا, وقريبا, وصديقا . . !! فجميع علاقاته بنفسه, وبعشيرته, وبالناس أجمعين, غائصة معه في أعماق استغراقه البعيدة . . بل إن الناس أنفسهم غائصون معه بدرجة قربهم منه, مما جعل قرابته وصداقته تتحول إلى غرم فادح للأقرباء والأصدقاء . . ولقد عبر عن هذه الحقيقة أجمل تعبير, خادم له رآه أمير المؤمنين يسحب برذونه, فسأله :
" كيف حال الناس . . ؟؟"
فأجابه: "كل الناس في راحة, إلا أنت, وأنا, وهذا البرذون . . !!"
و هذا ((محمد بن كعب القرظي)) يتحدث, فلنصغ إليه:
" دخلت على ((عمر بن عبد العزيز)) بعد استخلافه, وقد نحل جسمه, وعفا شعره, وتغير لونه – وكان عهدنا به في المدينة وهو أمير عليها, حسن الجسم ممتلئ البضعة . .فجعلت انظر إليه, لا أصرف بصري عنه ..فقال لي:
يا بن كعب, ما بالك تنظر إلي نظرا ما كنت تنظره إلي من قبل . . ؟"
قلت: لعجبي, يا أمير المؤمنين . . !!
قال: ومم عجبك . .؟
قلت: مما نحل من جسمك. ونفا من شعرك وتغير لونك . . أين ذاك اللون النضير . . والشعر الحسن , , والبدن الريان . .؟؟!
فقال لي: إنك إذن لأشد عجبا من أمري, وإنكارا لي, لو رأيتني بعد ثلاث في قبري, وقد وقعت عيناي على وجنتي, وسكن الدود منخري وفمي" . . !!
ثم راح يبكي . . ويبكي !!
وانه ليدعو إليه في الأيام الأولى لخلافته زوجته ((فاطمة)), ويواجهها بحقيقته الجديدة . . ويخبرها في رفق أنه كزوج لم يعد له وجود, فقد ثقلت أحماله حتى لم تعد هناك لحظة في وقته يهبها لغير تلك الأعباء الثقال. ثم يعطيها حقها الكامل في اختيار مستقبلها ومصيرها !!
و ((فاطمة)) هذه ستظل متألقة في وعينا طوال هذه الحلقات التي نسطرها عن زوجها الخليفة, وسنظل نرجي لها من التحية والإجلال ما هي له أهل – أي أهل . .!! فلقد ظلت بجوار زوجها تشاركه التقشف القاسي الذي فرضه على نفسه . .ولم تكن تزيد ين تقرقر أمعاؤها من الجوع, وترتعد أوصالها من الصقيع, على أن تقول :
" يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين . . فو الله, ما رأينا سرورا مذ دخلت علينا " . . !
لقد أخذها معه إلى قيعان مسئوليته واستغراقه . . وأضحت السيدة التي كانت زوجة خليفة . . وبنت خليفة . . وأخت خليفة . .والمتقلبة في أبهى ما كانت الدنيا تعرف يومئذ من حرير ولؤلؤ وذهب ونعيم . .أضحت لا تملك إلا ثوبين خشنين . . فقد حمل الخليفة كل حلله وحللها وحلل أبنائه وبناته وأمر ببيعها, ووضع أثمانها في بيت مال المسلمين . . وأضحت لا تأكل – أكثر ما تأكل- إلا الخبز الجاف مبللا بالزيت, أو مثرودا بالعدس . .وأضحت صاحبة الوجه الشاحب, والجسد الضامر الوهنان . . !!
دخل عليها – أمير المؤمنين – يوما, وهي تخيط ثوبها بيديها فربت على كتفها مداعبا وقال:
" يا فاطمة . . لنحن ليالي دابق أنعم منا اليوم" !!
مشيرا بهذا إلى حياتهم المنعمة قبل الخلافة في : ((مرج دابق))
فأجابته قائلة: "والله ما كنت على ذلك – يومئذ – أقدر منك اليوم " !!
تعني أنه الآن وهو خليفة وحاكم لدولة عظمى, أقدر على التزود من النعيم, منه قبل ذلك . .
وفجأة, يمتقع لونه, وتنثال دموعه, ويدرك أنه جاوز بهذه الدعابة حده, فيقول:
" يا فاطمة. . إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " !!
وهذا هو جوهر الإخلاص لدى أمير المؤمنين ((عمر بن عبد العزيز)) . . فهو لا يستغرق في مسئوليته استغراق من يريد أن يبلغ بها مجدا شخصيا, أو مغنما ذاتيا . . بل استغراق فان فيها, متبتل لها. إنه إخلاص يعكسه إخلاصه لله رب العالمين.
ورجل كعمر حين يخلص لله, فلا تستطيع ألف دنيا كدنيانا أن تدخل في هذه الصفقة ندا, أو شريكا . . !!