عمر بن عبد العزيز
فقعد للناس على الأرض . .!!
لقد كان – رضي الله عنه وأرضاه – دائم الترديد لهذه الآية الكريمة :
" وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" (يوسف:106)
واتخذ منها نذيرا يلهب به نفسه لتبلغ بإخلاصها لربه ولدينه ولمسئوليته أقصى ما يستطيع أولو العزم الراشدين. وكان يدرك بنور بصيرته أن أدنى مجاملة على حساب إخلاصه لمسئوليته إنما هو شرك متنكر وخفي, من نوع الشرك الذي حذر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه منه, مخبرا أن له دبيبا كدبيب النمل . . لقد نجح ((القديس)) نجاحا باهرا في صون إخلاصه من دبيب النمل هذا . . وأضحى الناس يقول بعضهم لبعض:
" هذا أول خليفة أموي لا نجد حاجة في قرع أبوابه.
فإن ما يكون لنا من حق يأتينا ونحن في دورنا . .
وما ليس لنا بحق, فدون بلوغه قطع الرقاب . . !!"
أجل . . لم يكن لإخلاص ابن عبد العزيز مزاحم ولا منافس, لا من قرابة, ولا من صداقة.
يقع خلاق بينه وبين بعض أمراء بني أمية حول حقوق يرونها لأنفسهم. ويقول أحدهم للخليفة
" سأآتيك بصك الوليد . . "
وفي كلمات حازمة, يقول عمر:
" أبالمصحف ستجيء ؟؟! . . "
لقد صار الحق وحده هو الفيصل والحكم . . فلا صكوك ولا مواثيق إلا صكوك الحق ومواثيقه . . ولا رحم ولا قرابة إلا رحم الحق وقرابته . . ولا يحول بينه وبين الحق شفاعة, ولا رغبة, ولا رهبة . .
كانت عمته ((أم عمرو بنت مروان)), صاحبة دالة على خلفاء بني مروان وأمرائهم . . وكانت أثيرة لدى – عمر بن عبد العزيز – وموضع حبه العميق, واحترامه الوثيق. وحين ألغى كل مخصصات بني مروان, ألغى مخصصاتها أيضا, فسارعت إليه, وفوجئت به جالسا يتناول طعام عشائه . وسلمت ((العمة)) ثم جلست, وراحت تحملق بعينيها لا تكاد تصدق ما تراه . .
لقد كان كل ما بين يديه من طعام, خبزا جافا, وطبق عدس, وملحا !!
ودارت بها الأرض . . !!
أهذا هو ((عمر)) الذي كان يخوض في النعيم خوضا ؟؟
الآن – وهو الخليفة المطاع – يصير هذا طعامه . . ؟!
ولم تتمالك نفسها, فأجهشت بالبكاء, ثم قالت:
" لقد جئتك في حاجة لي . . ولكني لم أكد أراك حتى رأيت أن أبدأ بك قبل نفسي . . !!"
قال الخليفة: " وما ذاك, يا عمة؟؟ .. "
قالت: "لو اتخذت لك طعاما ألين من هذا . . ؟؟"
قال: "لا أملك غيره يا عمة, ولو كان عندي لفعلت "
قالت: " إن عمك ((عبد الملك)) كان يجري علي ما تعلم . . ثم كان أخوك ((الوليد)) فزادني . . ثم كان ((سليمان)) فزادني . .ثم وليت أنت فقطعته عني. . "
فأجابها:" يا عمة: إن عمي – عبد الملك – و أخي – الوليد – وأخي – سليمان – كانوا يعطونك من مال المسلمين, وليس ذلك المال لي فأعطيكه, ولكني أعطيك مالي إن شئتِ ."
قالت:" وما مالك, يا أمير المؤمنين . . ؟؟"
قال:" عطائي . . مئتا دينار في العام " . .
قالت:" وما يبلغ مني عطاؤك . .؟؟!"
ثم انصرفت عنه يائسة بائسة, وهي التي كان الخلفاء ينحنون لرغبتها, ويسارعون إلى هواها . .!!
أبقيت هناك شفاعة لشافع . . أو مطمع لطامع . .؟! .. لا . . ففي وقدة إخلاصه احترقت كل الأطماع . . وإن هذا الإخلاص ليحيطه بسياج ترتد عنه كل المحاولات عاجزة مفلسة.
قال له بعض أصفيائه, حين جرد الأمراء الأمويين من كل ثرواتهم وممتلكاتهم ودفع بها إلى بيت المال:
" يا أمير المؤمنين, ألا تخاف غوائل قومك. . ؟؟"
فإذا الحليم الأواب, الهادئ السمت, الباكي العين, ينتفض كالأسد, وتخرج الكلمات من فمه كالزئير:
" أبيوم سوى يوم القيامة تخوفونني . .؟؟ فكل خوف أتقيه دون يوم القيامة لا وقيته " !!
وإذا كان إخلاصه هذا يبهرنا بمقدرته الفائقة على اكتساح السدود, فإنه ليبهرنا قبل ذلك بمفهومه الذي كان له في وعي ((عمر)) وضميره . . فهو بكل مواهبه وكفاياته لا يرى لنفسه الحق في أن يحمل مسئولياته بذكائه . .بل عليه أن يحملها وينجزها بالإخلاص وحده. إنه يبرأ إلى الله من حوله ومن قوته . . وإنه في ضياء إخلاصه العامر ليهرب من قدرته إلى قدرة الله, ومن اختياره إلى اختيار الله, ومن رأيه إلى توفيق الله . . !!
لهذا كان دعاؤه الدائم : " اللهم رضني بقضائك, وبارك لي في قدرك, حتى لا أحب تعجيل ما أخرت, ولا تأخير ما عجلت " !!
وهناك عبارة يكتبها مؤرخو سيرته تستوقفنا طويلا, وتبهرنا كثيرا . . أما العبارة فها هي ذي:
" . . ثم بويع ((عمر بن عد العزيز)), فقعد للناس على الأرض . .!! "
إن هذه العبارة الموجزة تفتح بصائرنا على قوة "القداسة" التي أنعم الله بها على عبده الصالح ((عمر بن عبد العزيز)). فما من بأس في أن يجلس الخليفة مجلسا فيه من روعة المظهر أو بهائه ما يحفظ وقار المنصب. بيد أنه من اللحظة التي طوقته فيها المسئولية, لم يكن تحركه روح الخليفة . . بل روح القديس . . !!
فهو يتعامل مع جوهر الأشياء, لا مع الأشياء نفسها . . ولما كان جوهر السلطة في نظر ((عمر), الخضوع المطلق لحقوق الناس الذين يلي الخليفة أمرهم, ويحمل مسئولية مصائرهم, فإن مكانه أذن أن يكون بين أيديهم, وليسوا هم الذين بين يديه . . والشكل الذي رآه ((عمر)) ملائما للتعبير عن هذه الحقيقة, هو جلوسه للناس على الأرض . .!!
أجل . . ليس مجرد الجلوس على الأرض الأمر الذي كان يعنيه, إنما هي الحقيقة المجيدة التي يمثلها هذا الجلوس . . حقيقة أن السلطة خضوع كامل لحقوق الناس تجاهها . .!!
ومن أجل هذا قعد الخليفة على الأرض, لا يفصله عن ترابها سوى حصير متواضع . .
قعد على الأرض ليهدم كل ما للسلطة من بذخ واستعلاء, ولينـزلها عن عرشها الصلف وكبريائها الزائفة إلى أرض البساطة, والتواضع, والمرحمة . . !!
والقداسة التي تمتع بها ابن عبد العزيز, قداسة رجل أراه الله مناسكه . إنها قداسة تبهرنا بما تنطوي عليه من فطنة وحذق. فهل يتصور أحد أن قديسا كهذا القديس لا يكف عن العبادة والنسك, يطلب إليه ذات يوم الموافقة على صرف مبلغ كبير من المال لكسوة الكعبة, فيكون جوابه :
" إني أرى أن أجعل هذا المال في أكباد جائعة, فإنها أولى بها من الكعبة " . . !!
هل يتصور حدوث ذلك من عابد, ناسك, قديس ؟؟
لكنها القداسة الذكية التي تحدق دائما في الجوهر . . إن هذا الناسك الأواب, ليذكر له يوما نبأ واعظ يدعو الناس إلى طاعات لا يأتيها, فإذا القديس ((عمر)) يعلق على هذا بقوله:
" لو أن كل امرئ لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يلزم بذلك نفسه, لما كان هناك أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر . . ولقلَ الواعظون والساعون لله بالنصيحة . . " !!
إنها قداسة ذكية نفاذة . . قداسة رجل كان يدعو ربه دائما فيقول :" اللهم انفعني بعقلي " . . !!
إنها قداسة جاءت الحياة, ومعها من الزهد, والورع, والطهر, والتقي, والعدل, والرحمة, ما كان الناس يحسبون أن الدنيا فرغت منه إلى الأبد.
قداسة لم تكد تجلس للناس على الأرض حتى أنبتت الأرض عدلا ورحمة . . وأمطرت السماء عدلا ورحمة . . ووعي الذئب مع الشاة, في تآخ وسلام . . !!
ولقد أنجز القديس كل هذا التغيير الهائل الذي بدا وكأنه تغيير في كيمياء الزمن, وكيمياء الحياة . .أنجزه بمنهج لا ندري أنقول: إنه بالغ اليسر . . أم نقول: إنه بالغ الصعوبة. أم أن اليسر والصعوبة يتراجعان بعيدا ليفسحا المكان لوصف آخر أحق منهما وأولى . . ؟؟
أجل . . إن ذلك لكذلك . .
فلنقل إذن: انه منهج بالغ الإعجاز . . !!
ترى أي منهج ذاك الذي بلغ أسمى آفاق العدالة والحق. .؟؟
فلنتابع منهجه لنرى . . . . . . .