عمر بن عبد العزيز
ثم لا تشهد هذه الدار إيقاد النار إلا لماما . .
العدل, والحق . . !!
بهما وعليهما سيقوم منهج أمير المؤمنين, وعلى طريقهما المستقيم ستمضي خطاه . . أخذا
معه على ذاك الطريق جميع الناس – أمراءهم, وعامتهم . . أغنياءهم, وفقراءهم . . أقوياءهم, وضعفاءهم . .
كتب إليه واليه علي ((خراسان)) يستأذنه في أن يرخص له باستخدام بعض القوة والعنف مع أهلها, قائلا في رسالته للخليفة:
"إنهم لا يصلحهم إلا السيف والسوط" . .
فكان رده التقي الحازم:
" كذبت . . بل يصلحهم العدل والحق, فأبسط ذلك فيهم, واعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين " . . !!!
والخليفة, الذي نراه دائم البكاء, بل النحيب, كلما ذكر الله واليوم الأخر . . والذي ينتفض تحت تقاه انتفاضة العصفور, حتى لنحسبه لا يصلح لغير الصومعة يتحنث فيها ويتعبد . .!!
وبين يدي عزمه الرباني القدير, راحت كلماته تقرع أسماع الغطرسة, والتحدي:
" والله, لو لم ينهض الحق ويدحض الباطل إلا بتقطيع أوصالي وأعضائي, لأمضيت ذلك وأنا سعيد . . ووالله, لو لبثت فيكم خمسين عاما, ما أقمت إلا ما أريد من العدل " . .!!
فلنتابع منهجه لنرى . .
((فأولا)): الدولة قدوة . .
إن الحكام الذين يفرضون سلطان القانون بسلطان الدولة لا يأتون أمرا مذكورا, فتلك سنة مألوفة معتادة: أن تحمي القوة القانون .
أما الحكام الذين يحمون القانون وينفذونه بالقدوة, فأولئك الذين يجاوزون المألوف المعتاد إلى الخوارق والمعجزات. ولقد كان ((ابن عبد العزيز)) واحدا من هؤلاء. ولكي تكون الدولة قدوة, لابد من أن تكون بمسئوليها جميعا, وعلى رأسهم أمير المؤمنين, طليعة العمل ورائده . .
وهكذا راح ((عمر)) يضع الدولة كلها- وهو على رأسها – في مكان القدوة, حاملة وحاملا معها كل ما تلقيه القدوة من مسئوليات, وباذلا كل ما تتطلبه من تضحيات.
وقبل أن يأمر ولاته وقضاته, وخزنته, بدأ بنفسه !!
لقد تلونا من قبل, كلمته العظيمة: "لست إلا كأحدكم, غير أني أثقلكم حملا" !!
وهنا, نرى طريقته في وضع هذا المبدأ موضع التنفيذ الحاسم, الحازم, الفريد . .
لقد كان دخله السنوي حتى اليوم الذي ولي فيه الخلافة أربعين ألف دينار . .هي حصيلته من مخصصاته كأمير أموي . . ومن الأرض التي كان يملكها. ومن نصيبه الوفير من ميراث أبيه ((عبد العزيز بن مروان)).
والآن, تتفتح بصيرته على الحقيقة العميقة, فيرى أن هذا الثراء الفاحش الذي يمتلكه أمراء بني مروان – وهو معهم – لم يبلغوه بعرق الجبين . . وما هذه الثروة المتمركزة في أيدي حفنات من الأمراء والسادة, إلا حقوق الملايين وأقواتها سلبت منها بغير حق, وبغير سلطان . .!!
ومن فوره, اتخذ قراره الحاسم بإلغاء مخصصات الأمراء كافة, ومخصصات حرسهم وخدمهم, وقراره بنزع الإقطاعيات الزراعية منهم جميعا, وردها إلى بيت المال . .
وبدأ بنفسه, فتخلى عن جميع أملاكه وأمواله . .حتى أرض ((فدك)) في ((خيبر)) وكانت خير ممتلكاته وأثمنها, ولم يكن أحد أقطعه إياها, بل ورثها عن أبيه.
ولكنه سأل نفسه: ومن أين جاء بها أبوه . .؟!
لقد أفاءها الله على رسوله عليه الصلاة والسلام يوم ((خيبر)), فخصصها لأبناء السبيل, وظلت كذلك حتى ملك الأمر ((معاوية)), فوهبها لمروان . .ومن ((مروان)), وصلت إلى ابنه ((عبد العزيز)) والد ((عمر)).
حتى هذه الأرض, تخلى عنها وكتب لواليه على المدينة يأمره أن يضمها لملكية الدولة, وأن يصرف ريعها ونتاجها, حيث كان يصرف على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه.
ليس ذلك فحسب . . بل لقد تنازل عن كل درهم في راتبه المخصص له كأمير للمؤمنين . .!!
لقد اكتفى من دنياه كلها, ولدنياه كلها, بقطعة أرض صغيرة كان قد اشتراها بحر ماله, ولم تكن تغل أكثر من مائتي دينار في العام, راح يعيش بها هو وأسرته الكبيرة.
مائتا دينار في العام, لرجل كان دخله منذ أيام لا غير – أربعين ألف دينار . . !!
مائتا دينار, لحاكم أعظم, وأكبر, وأغنى إمبراطوريات عصره وعالمه, يعيش بها طول العام وعرضه, وتعيش معه أسرته التي كانت هي الأخرى – منذ أيام – لا غير, تخب في النعيم خبا . .وتعب المباهج عبا . .!!
ولكن, أي بأس؟!
أليس قد رفع الحق شريعة والعدل منهاجا؟!
كل أرضه تركها للدولة . . كل ثروته النقدية, دفعها إلى خزانة الدولة . .
بل لقد جمع ثيابه وحلله الثمينة, وحلل زوجته وأولاده . . ثم جمع مراكبه وعطوره ومتاعه, ثم دفع ثمنها الذي بلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار إلى بيت المال . . !!
ثم حرم نفسه حتى حقها المشروع في راتب الخلافة الذي كان يستطيع أن يتنازل عن نصفه أو عن ثلثيه, لكنه رفضه جميعا إلى أخر درهم منه . . وراح يعيش بعائد أرضه الصغيرة – مائتي دينار في العام – بواقع ثلاثة أرباع دينار في اليوم, لأمير المؤمنين وزوجة أمير المؤمنين, وأولاد أمير المؤمنين . .!!
أفما كان يكفيه أن ينفرد هو بأعباء القدوة, تاركا أهله وأولاده يحيون ولو في مستوى حياة أوساط الناس . .؟؟
إانه يعتبر هذا – لو حدث – احتيالا على المسئولية, وهروبا من تبعات القدوة, ويرى النار تمد إليه ألسنتها اللاهبة, لتطوقه حسابا له وعقابا . . !!
ومن ظن أننا نبالغ في التصوير, ونسرف في صبغ الألوان فليطالع هذه الواقعة:
لقد عاد يوما إلى داره بعد صلاة العشاء, ولمح بناته الصغار, فسلم عليهن كعادته, وبدلا من أن يسارعن نحوه بالتحية كعادتهن, رحن يغطين أفواههن بأكفهن ويتبادرن الباب . . فسأل:" ما شأنهن . . ؟؟"
فأجيب:" بأنه لم يكن لديهن ما يتعشين به سوى عدس وبصل . . فكرهن أن يشم من أفواههن ريح البصل, فتحاشينه لهذا . .
فبكى أمير المؤمنين, وقال يخاطبهن:" يا بناتي . . ما ينفعكن أن تعشين الألوان والأطايب, ثم يذهب بأبيكن إلى النار . .؟؟ "
وترى إحدى بناته الصغار صديقة لها تزين أذنيها بلؤلؤتين جميلتين, فترسل إحداهما إلى أبيها ضارعة أن يشتري لها مثلها. ويدعو أمير المؤمنين خادمه, ويأمره أن يجيء بجمرتين ملتهبتين . . ثم يطلب ابنته فيقول لها:" إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في أذنيك, جئتك بلؤلؤتين كهاتين " . . !!
إن مسئولية القوة – إذن – لا تنحصر فيه, هو الخليفة والحاكم . . بل – وبحسب منهجه وتقديره – تنال أهله جميعا, حتى بنياته الصغار . . !
وهكذا راح يحملهم على التضحية في سبيل المسئولية والقدوة . .
اقترب يوما من زوجته ((فاطمة)), وقال لها: "إانك لتعلمين من أين أتاك أبوك – (عبد الملك بن مروان) – بهذه الجواهر, فهل لك أن أجعلها في تابوت, أضعه في أقصى بيت المال, وأنفق ما دونه ,فإن خلصت إليه أنفقته في حاجات المسلمين" . . ؟؟
ولم يكن قد بقي ل((فاطمة)) سوى هذه الحلي وهذه الجواهر, وهي عزيزة عليها؛ لأنها هدية أبيها لها في عرسها وزفافها. ولكنها لا تجادل زوجها القديس حتى في هذه. وتجرد منه نحرها, ومعصميها, في غبطة ورضا . . !!
ويغادر أمير المؤمنين قصور الخلافة, ويأوي إلى دار متواضعة . . ثم لا تشهد هذه الدار إيقاد النار إلا لماما . .
ويأخذ على نفسه العهد ألا يستحدث لنفسه شيئا من أشياء الدنيا ومتاعها حتى يلقى ربه . .