عمر بن عبد العزيز
" فإما اعتدلت . . وإما اعتزلت " !!
وكما أحسن اختيار ولاته, أحسن اختيار قضاته, وأمناء بيوت المال . . وأمر هؤلاء وأولئك أن يختاروا معاونيهم وموظفيهم من الأمناء على دين الله, ودنيا الناس. وراحت أضواء قداسته وقدوته تتعالى وتتعاظم حتى كانت منارات هداية, وسعت الدولة كلها والأمة جميعها بأنوارها الغامرة وهداها الوثيق.
وثانيا: الشورى ضرورة . .
وننتقل الآن إلى المحور الثاني من محاور منهج الحاكم القديس وأسلوبه, لنشهد له تجاه الشورى موقفا فذا يمتاز بالعمق والشمول . لقد أدرك أن كل ما يشيده من دنيا صالحة, وعالم قويم, لن يكون ثمة ضمان لاستمراره وإنمائه سوى سياج منيع يصونه ويحميه . . وتمثل له هذا السياج في توسيع قاعدة المسئولية حتى تنتظم أصحاب الحق فيها, حاكمين ومحكومين . .
لم يكن عصره قد عرف النظم البرلمانية بعد . . لكن ديمقراطية الحاكم مع ذلك كانت تبين وتسفر كالشمس من خلال أسلوبه في الحكم, وطريقته في اختيار ولاته وبطانته, واستعداده لتقبل النقد, وسماع كلمة الحق, ونظرته إلى الأمة التي يحكمها, ومدى ولائه لحقوقها وحريتها . وبهذا المعيار والمسبار, يقف ((عمر بن عبد العزيز)) في هذا المجال وكأنه نسيج وحده !!!
لقد أحاط نفسه بالأبرار الذين لا يخافون في الله لومة لائم, والذين لا يزيفون اقتناعهم, ولا يلبسون الحق بالباطل, وان قطعت منهم الرقاب . .
جمعهم حوله, يفكرون معه . . بل لقد كان يوصي بعضهم أن يجلس تلقاءه وهو في مجلس الحكم, ويضع عينيه المفتوحتين على حديثه, وحركاته, فين نسي وقال كلمة, أو أتى حركة فيها شبهة من خطأ, نبهوه على الفور بإشارة, تعارف وإياهم عليها . .
لقد امن بأن الشورى ضرورة, وليست ترفا . . وامن بأنها كلما اتسعت قاعدتها, استقام الحكم, وشاع الحق, واستوثق العدل, وعاش الناس كما يريد لهم دينهم, وكما ولدتهم أمهاتهم أحرارا . . من أجل ذلك, راح في سرعة الضوء يخلق رأيا عاما صادقا أمينا, في طول الدولة وعرضها .
وراح يضع الحاكمين والمحكومين وجها لوجه أمام مسئولياتهما المشتركة, بل الواحدة في دحض الخطأ والتزام الصواب . . فيكتب للولاة قائلا:" إنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيا. ألا إن أولاهما بالمعصية الإمام الصادق " !!
ثم يكتب للناس في مختلف الأقاليم قائلا:" أي عامل من عمالي رغب عن الحق ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم. وقد صيرت أمره إليكم, حتى يراجع الحق وهو ذميم . . " !!
ويرسل إلى أحد ولاته قائلا:" قد كثر شاكوك . . وقل شاكروك . . فإما اعتدلت . . وإما اعتزلت " !!
هكذا رفع سلطة الشعب في وجه سلطة الحكم, وأسلم نواصي ولاته وعماله للرأي العام يقودهم على طريق الحق طائعين أو كارهين. ولكي يدعم هذه السلطة, فتح أبوابه على مصاريعها لكل شاك أو متظلم من حاكمه وواليه . . وأرسل منشورا موجزا إلى جميع الأقطار:
" من ظلمه إمامه مظلمة, فلا إذن له على "
أي ليقتحم على داري, غير منتظر إذنا, وغير واقف بباب !!
وانه ليبهرنا أسلوبه الفريد في بعث الرأي العام الشجاع, وتزكية حرية النقد, وشد زنادها إلى أقصاه. ففي سبيل ذلك, نراه يرسل من بيت المال جوائز مغرية لكل من يكشف عن خطأ, ويهدي إلى صواب . .!!
ولنطالع في إجلال, المنشور الذي كتبه, ثم أمر أن يقرأ على الناس في المواسم والمحافل والمجامع:" أما بعد . . فأيما رجل قدم علينا في مظلمة نردها, أو أمر يحيي الله به حقا, أو يميت باطلا, أو يجيء بخير . . فله منا ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار. بقدر ما يصعب عليه في ذلك من طول السفر وبعد الشقة " . . !!
أليس عجبا هذا الذي نقرأ ونرى . . ؟؟
ألا, وإن أعجب من ذلك, أن بطل هذا كله رجل لم تكن بيئته ولا عصره بقادرين على تشكيل بنانه.
لكنها صبغة الله . . ومعجزة الإسلام . . !!!
ولكم كان صادقا حين قال:" لو وكلني الله إلى نفسي لكنت كغيري "
لقد راح يضرب المثل الأسمى والقدوة الباهرة في تقبل النقد – هو الذي لم يعرف الناس له خلال خلافته كلها خطأ واحدا يستأهل النقد والتنفيذ . . ولقد كانت الغبطة تملأ روحه حين يجد من عامة الناس من يقول له:
إلى أين؟ ولماذا؟!
هنالك يربت كتفه, ويدنيه منه, ويقول له:" زدني يا أخي, جزاك الله خيرا " !!
إنه يلتمس الحكمة والصواب وراء ألسنة الصادقين حتى حين يكون أحدهم طفلا . .
قدم إليه وفد من المدينة يوما, وتقدم من بينهم غلام صغير ليتحدث باسمهم ويعرض قضيتهم, فتملاه أمير المؤمنين, وقال له:" يا بني . . دع القول لمن هو أسن منك "
ويبدو أن الغلام العربي الأصيل كان يحمل نبوغا مبكرا, فقد أجاب الخليفة من فوره:" يا أمير المؤمنين, المرء بأصغريه: قلبه ولسانه . . ولو كان الأمر بالسن, لكان في المسلمين من هو أحق بهذا الأمر منك " . . !!
وفجأة تنثال دموع الغبطة والفرح من عيني القديس, ويتهلل وجهه, ويهتف ياللغلام:" صدقت . . صدقت . . عظني يا بني . . !!"