المحاور كالذي يصعد جبلا وعرا ... ينبغي أن يعتني بموضع يده و موضوع رجله... فتجد صاعد الجبل ينظر إلى الصخرة التي يريد أن يتعلق بها ... و يفحصها بنظره و يتأمل في قوة ثباتها قبل أن يضع عليها قبضته..
قد يحدث جدالا بين اثنين و قد يكون في قضية تافهة. و ترتفع الأصوات و تحمر العيون ويتفرقا. و استثقل كل منهما الأخر بعدها.
ففي يوم كان محاضرا يتكلم عن فن الحوار. فعرض شيئا من قصة يوسف عليه السلام.
فلما وصل إلى قوله تعالى : " و دخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الأخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه" .
جعل يتأمل في الحاضرين ثم سألهم : أيهم دخل قبل الأخر ... يوسف أم الفتيان ؟
فصاح أحدهم : يوسف.
فصاح الأخر : لا الفتيان.
فأنطلق الثالث : دخلوا مع بعض.
وارتفع اللغط حتى ضاع الموضوع الأساسي.
ويبدو أن المحاضر قصد ذلك. فتأمل وجوههم و الوقت يمضى. ثم ابتسم ابتسامة عريضة وأشار لهم بخفض الأصوات.
وقال: ما المشكلة!! دخل قبلهم أو بعدهم. هل تستحق المسألة كل هذا الخلاف ؟
فلا تجادل في شيء لا يؤثر شيئا
الحوار الهادف ذي النوايا الصادقة الذي يبغي الوصول للحق، واتباع آداب الحوار كالاستماع للآخرين، وعدم مقاطعتهم، وعدم رفع الصوت، وطلب الشورى، وقبول الآراء الأخرى وسعة الصدر لها والصبر.فقد يكون فيها الخير الكثير.
أما الجدال فسوف يسبب المتاعب بينك و بين الناس و لا يخلق إلا الصراعات.
و سوف نقص عليكم حكاية حدثت في وقت النبي صلى الله عليه وسلم بين العباس رضي الله عنه و عمر بن الخطاب رضي الله عنه. و كيف رد عمر و لم يقم بمجادلة العباس.
لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة فاتحا. بعدما نقضت قريش العهد..كان صلى الله عليه و سلم قد دعا الله أن يعمى عنه قريش ليبغتهم قبل أن يستعدوا للقتال..
فلما أقبل النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة نزل قريبا منها، ولم تعلم قريش بشئ و لكنهم كانوا يتوجسون و يترقبون.
فخرج في تلك الليلة التي نزل فيها النبي صلى الله عليه و سلم أبو سفيان في نفر معه يتجسسون الأنباء. و كان النبي صلى الله عليه و سلم يترقب الصبح ليغير على قريش، فلما رأى العباس رضي الله عنه ذلك قال: و اصباح قريش! و الله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة عنوة أي بالقوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى أخر الدهر.
فقام العباس و استأذن من النبي صلى الله عليه و سلم ... فأذن له. فركب على بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم البيضاء و مضى يمشى بها، و أبو سفيان في أصحابه يقترب من معسكر النبي صلى الله عليه و سلم و هو لا يعلم أنه ينظر إلى نيران المسلمين.
و يقول : ما رأيت كالليلة نيرانا قط و لا عسكرا . ما أعظم هذا ..من ترى هؤلاء؟
فقال صاحبه : هذه والله قبيلة خزاعة حمشتها الحرب.
قال: خزاعة أقل من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها.
ظل أبو سفيان يقترب أكثر و أكثر حتى وقع في قبضة جمع من حرس المسلمين فاقتادوه إلى وجهة رسول الله صلى الله عليه و سلم، فبينما العباس يسير إلى البغلة إذا بأبي سفيان وأصحابه قد قبضت عليهم خيل المؤمنين، فأقبل أبى سفيان فزعا فركب خلف العباس وجعل أصحابه يتبعونه و المسلمين خلفهم.
فجعل العباس يسرع بأبي سفيان إلى رسول الله ، و كلما مر بنار من نيران المسلمين.
قالوا : من هذا ؟
فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم و رأوا العباس عليها.
قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و العباس يسرع بها خوفا من أن يفطنوا لأبى سفيان حتى مر بنار عمر بن الخطاب.
فقال : من هذا ؟
و قام إليهم فلما رأى أبا سفيان على الدابة.
صاح بالناس قائلا: أبو سفيان عدو الله!... الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد و لا عهد.
فمنعه العباس ... ثم ذهب عمر يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و العباس يسرع بالدابة حتى سبقه العباس، فلما وصل إلى موضع النبي صلى الله عليه و سلم ،اقتحم العباس عن البغلة سريعا ،فدخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم.
فدخل عليه عمر و جعل يقول: يا رسول الله .. هذا أبو سفيان ..قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد.. فدعني لأضرب عنقه ؟
كان أبو سفيان قد فعل الكثير بالمسلمين ، فهو قائد المشركين في معركة أحد و قائدهم في معركة الأحزاب و طالما ضيق على المسلمين وقتل و عذب... و ها هو الآن في قبضتهم!!
فقال العباس: يا رسول الله..انى قد أجرته.
ثم جلس العباس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ يناجيه في أذنه ، و عمر يردد يا رسول الله أضرب عنقه ، فلما أكثر عمر في شأنه ... التفت إليه العباس
و قال: مهلا يا عمر! فو الله أن لو كان من رجال بني عدى بن كعب ... ما قلت هذا؟
أي لو كان قرابتك ما قلت هذا ، و لكنك تعرف أنه من رجال بني عبد مناف.
فشعر عمر أنه سيدخل في جدال لا يتناسب مع الحال الذي هم فيه ، ثم ما الفائدة المرجوة من النقاش مسألة لو كان من بني كعب رغب في إسلامه أما من غيرهم فلا يهمه!!
فال عمر بهدوء: مهلا يا عباس ..مهلا.. فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام أبى الخطاب لو أسلم ! لأني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب، فلما سمع العباس ذلك سكت.
انتهى الحوار! مع أنه كان في إمكان عمر أن يطيله و يزيده. فيقول: ماذا تقصد؟ و هل تتهم نيتي؟ هل تعلم ما في قلبي؟
و قد أسلم أبو سفيان لما وجد من شدة طاعة و اتباع المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و أنشد أبى سفيان بين يدي رسول الله أبياتا يعتذر إليه مما كان مضى منه.
هداني هاد غير نفسي و نالني ... مع الله من طردت كل مطرد
أصد و أنأى جاهدا عن محمد ... و أدعى و إن لم انتسب من محمد
فضرب رسول الله بيده في صدره و قال: " أنت طردتني كل مطرد"
لقد نصحنا بعدم بدأ المجادلة و لكن إذا جادلك الآخرون ماذا تفعل؟ أحسن إليهم.
{ وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل 125
فهل من المعقول في المشادة الكلامية أن أحسن لكن كيف أحسن..؟
فمثلا: أحدهم قال رأيا لم يعجبك.. فيمكن أن يكون الرد: ما هذا الكلام السخيف! نسمع هذه الجملة كثيرا أليس كذلك ؟!!
ويمكن ان يكون الرد في صورة أكثر ذوقا مثل: أنا أعترض على كلامك.. ولكن أين الإحسان؟!
ما رأيك أن تقول له" حضرتك بإمكانك أن تسمع وجهة نظري وحتى إن كان بيننا اختلاف في وجهات النظر فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية". ما رأيك؟ أعتقد أنها ستحدث فرقا كبيرا أليس كذلك؟
هيا نتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أدب الحوار.
لقد جاءه عتبة بن ربيعة، وهو في مكة في فترة الإيذاء الشديد للمسلمين، ويقول عتبة للنبي كلاما سخيفا.. يعرض عليه مالا ليترك دعوته، ويعرض عليه الزواج، ويعرض عليه الرئاسة، ويعرض عليه طبيبا إن كان قد أصابه الجنون، كل ذلك ليترك دعوته، ومع ذلك فكيف جادله النبي صلى الله عليه وسلم؟ كيف حاوره النبي؟
قال له:" قل يا أبا الوليد أسمع" فلما انتهى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:" أفرغت يا أبا الوليد"
تعلموا من رسول الله ...
أيها الأحبة: يؤخذ على بعض المتدينين أنه كلما جادلهم أحد تجدهم يفقدون أعصابهم.. أرجوكم تعلموا من النبي وأحسنوا حتى في الجدال.
المصادر :