أصلح الله الأمير
عندما تقلب صفحات التاريخ الإسلامى سوف تجد مواقف عظيمة لشخصيات أعظم، واليوم قد اخترت لكم بعض المواقف لشخصية عظيمة لأسجل افتتاني بها... إنه أحد الأئمة الأجلاء الأربعة وزعيم مدرسة الرأي في الفقه وصاحب المنطق العقلي الذي يقنعك بحججه واستدلالاته المنطقية فتشعر معه بالمتعة العقلية و الفكرية... إنه الإمام أبو حنيفة النعمان،
ولد أبو حنيفة النعمان سنة 80هـ من أسرة فارسية، وسمي النعمان تيمنا بأحد ملوك الفرس... من أجل ذلك كبر على المتعصبين العرب أن يبرز فيهم فقيه غير عربي الأصل.. حاول بعض محبيه أن يفتعل له نسبا عربيا.. ولكنه كان لا يحفل بهذا كله فقد كان يعرف أن الإسلام قد سوى بين الجميع، وأن الرسول (صلى الله عليه و سلم) احتضن سلمان الفارسي وبلال الحبشي، وكانا من خيرة الصحابة حتى لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول «سلمان منا أهل البيت».
وكان أبوه تاجرا كبيرا فعمل معه وهو صبي، وأخذ يختلف إلى السوق ويحاور التجار الكبار ليتعلم أصول التجارة وأسرارها، حتى لفت نظر أحد الفقهاء فنصحه أن يختلف إلى العلماء فقال أبو حنيفة: "إني قليل الاختلاف إليهم" فقال له الفقيه الكبير: "عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وفطنة، ومنذ ذلك اليوم وهب الفتى نفسه للعلم، واتصل بالعلماء ولم تنقطع تلك الصلة حتى آخر يوم في حياته.. ولكم عانى وعانى منه الآخرون في هذا الميدان الجديد الذي استنفر كل مواهبه وذكائه وبراعته!!
ودرس على يد عدة شيوخ في مسجد الكوفة ثم استقر عند شيخ واحد فلزمه... حتى إذا ما ألم بالشيخ ما جعله يغيب عن الكوفة، نُـصب أبا حنيفة شيخا على الحلقة حتى يعود.. وكانت نفس أبي حنيفة تنازعه أن يستقل هو بحلقة، لكنه عندما جلس مكان أستاذه سئل في مسائل لم تعرض له من قبل وهنا ظهر فطنته وعلمه، فأجاب عليها وكانت ستين مسألة.
وعندما عاد شيخه عرض عليه الإجابات، فوافقه على أربعين، وخالفه في عشرين.. فأقسم أبو حنيفة ألا يفارق شيخه حتى يموت، ومات الشيخ وأبو حنيفة في الأربعين، فأصبح أبو حنيفة شيخا للحلقة، ودارس علماء آخرين في رحلاته الى البصرة وإلى مكة والمدينة خلال الحج والزيارة، وأفاد من علمهم، وبادلهم الرأي، ونشأت بينه وبين بعضهم مودات، كما وجد بينهم بعض الاختلافات وهذه هي طبيعة البشر.
مواقف من حياة أبى حنيفة
· جاءته امرأة تبيع له ثوبا من الحرير وطلبت ثمنا له مائة.. وعندما فحص الثوب قال لها "هو خير من ذلك". فزادت مائة.. ثم زادت حتى طلبت أربعمائة، فقال لها: «هو خير من ذلك». فقالت: أتهزأ بي؟، فقال لها: «هاتي رجلا يقومه» فجاءت برجل فقومه بخمسمائة.. .
· وذهب إلى حلقة العلم يوما، وترك شريكه في المتجر، وأعلمه أن ثوبا معينا من الحرير به عيب خفي، وأن عليه أن يوضح العيب لمن يشتريه. أما الشريك فباع الثوب دون أن يوضح العيب!..
وظل أبو حنيفة يبحث عن المشتري ليدله على العيب، ويرد إليه بعض الثمن، ولكنه لم يجده، فتصدق بثمن الثوب كله، وانفصل عن شريكه..
· كان له جار يسكر في الليل ويرفع عقيرته بالغناء:
ليوم كريهة وسداد ثغر أضاعوني وأي فتى أضاعوا
وكان صوت الجار يفسد الليل على أبي حنيفة.. حتى إذا كانت ليلة سكت فيها صوت الجار السكير، فلما أصبح الصباح سأله عنه فعلم أنه في السجن متهما بالسكر؛ فركب أبو حنيفة الى الوالي فأطلق سراح السكير.
وعندما عادا معا سأله أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال له: بل حفظتني رعاك الله. وما زال به أبو حنيفة حتى أقلع عن الخمر، وأصبح من رواد حلقات العلم ثم تفقه وصار من فقهاء الكوفة.
· ولقد كان في حرصه على إرضاء أمه؛ يحملها على دابة، ويسير بها الأميال، لتصلي خلف أحد الفقهاء يرى هو نفسه أن أبا حنيفة أفضل منه، لأن الأم كانت تعتقد بفضل ذلك الفقيه!
وكانت الأم لا ترضى بفتوى ابنها أحيانا، فتأمره أن يحملها إلى أحد الوعاظ، فيقودها إليه عن طيب خاطر.. ولقد قال لها الواعظ يوما: كيف أفتيك ومعك فقيه الكوفة؟
ومع ذلك فقد ظل أبو حنيفة حريصة على إرضائها، لا يرد لها طلبا، حتى إذا عذب في سبيل رأيه، طلبت منه أمه أن يتفرغ للتجارة وينصرف عن الفقه وقالت له: ما خير علم يصيبك بهذا الضياع؟. فقال لها: إنهم يريدونني على الدنيا وأنا أريد الآخرة وإنني أختار عذابهم على عذاب الله.
ولكم تحمل أبو حنيفة من عذاب!!!
«من يعذرني من أبي حنيف حيا وميتا؟»
و كان هناك عصبة معادية لأبي حنيفة في قصر الخليفة زينت للخليفة أن يقهر أبا حنيفة على قبول ما يعرضه عليه من مناصب، فإذا أبى فقد امتنع عن أداء واجب شرعي فحق عليه العقاب، ووجب أن يشهر به في الأمة، لأنه يتخلى عن خدمتها . واقترحوا على الخليفة أن يبدأ فيمتحن ولاءه، فيرسل إليه هدية. وكانوا يعرفون سلفا أن الإمام أبا حنيفة لن يقبل الهدية..! وأرسل له الخليفة مالا كثيرا وجارية.. فرد الهدية شاكرا.
ثم أرسل الخليفة المنصور إليه يلح عليه في ولاية القضاء فرفض... فاستدعاه الخليفة وسأله: أترغب عما نحن فيه؟ فأجابه : أصلح الله الأمير انى لا أصلح للقضاء. فقال له : كذبت! فأجابه الشيخ الإمام بهدوء: قد حكمت بأني لا أصلح للقضاء فقد نسبتني للكذب، فإن كنت كاذبا فلست أصلح للقضاء وإن كنت صادقا فقد أخبرت الخليفة بأني لا أصلح له من قبل.
وسأله الخليفة عن سبب رفض هداياه.. فقال له أبو حنيفة إنها من بيت مال المسلمين ولا حق في بيت المال إلا للمقاتلين أو الفقراء أو العاملين في الدولة بأجر وهو ليس واحدا من هؤلاء! فأمر الخليفة بحبسه.
وهاهو شيخ في السبعين أثقلته المعارك والدسائس والهموم، ومكابدة الفقه والعلم والتحرج.. هاهو ذا يضرب، ويظل يضرب بالسياط في قبو سجن مظلم، ورسل الخليفة يعرضون عليه هدايا الخليفة، ومنصب القضاء والإفتاء.. وهو يرفض.. فيعاد إلى السجن ليعذب من جديد.. ويكررون العرض، وهو يكرر الرفض داعيا الله "اللهم أبعد عني شرهم بقدرتك"
وظل في سجنه يعرضون عليه الجاه والمنصب والمال فيأبى.. ويعذب من جديد!
وتدهورت صحته، وأشرف على الهلاك، وخشي معذبوه أن يخرج فيروي للناس ما قاسى في السجن، فيثور الناس!. فقرروا أن يتخلصوا منه فدسوا له السم، وأخرجوه وهو يعاني سكرات الموت، وما عاد يستطيع أن يروي لأحد شيئا بعد!!
وحين شعر بأنها النهاية أوصى بأن يدفن في أرض طيبة لم يغتصبها الخليفة أو أحد رجاله...وهكذا مات فارس الرأي الذي عرف في السنوات الأخيرة من حياته باسم الإمام الأعظم.
وشيعه خمسون ألفا من أهل العراق واضطر الخليفة أن يصلي على الإمام الذي استقر إلى الأبد في ركن هادئ من الدنيا لم يشبه غضب، والخليفة يهمهم: "من يعذرني من أبي حنيفة حيا وميتا؟".
عليه و على أمثاله رضوان الله و رحمته و سلامه
قالوا عنه
يقول عنه الشافعي: "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة".
وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة.
وقال عنه ابن المبارك: ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة.
وقال عنه يزيد بن هارون: ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة.
المصادر
· موقع أرض الشرق
http://www.daraleman.org/main11_mokhtarat/alemam_abu_khalefa.htm
· كتاب قدمت أعذارى للأستاذ عبد الوهاب مطاوع.