هالني ما سمعته من بعض الشباب المسلم الذي يبرر وقوعه في بعض المعاصي بقولهم " إن البشر من طبيعتهم الخطأ والذنب حتى الأنبياء منهم من كذب مثل إبراهيم ومنهم من هم بالزنا مثل يوسف ، وإن أشد الأنبياء والأتقياء لو كان في زماننا لكفر وفعل أفعالنا ، وأفضل الناس يقول : ساعة لربك وساعة لقلبك "
وصُعِقت إذ أدركت أن الإعلام الغربي وأعداء الإسلام نجحوا إلى حد كبير في جعل غالبية لا يُستهان بها من شباب المسلمين لا يهتمون بشؤون أمتهم كما جعلوهم يتبعون شهواتهم ويكون همهم الأول الدنيا ومطالبها ، كما جعلوهم يفقدوا ثقتهم في كافة الأنبياء والرموز الدينية حتى شكوا في كل شيء وتاهوا في مجاهل الحياة لا هادي لمعظمهم سوى احتياجاتهم الدنيوية وشهواتهم أيا كانت ورموز الكفر والإلحاد والنفعية والمادية سواء في عصرنا أو في العصور السابقة ، وتحسرت على نظرة عدد من شبابنا إلا من رحم ربي إلى أنبياء الله عزّ وجلّ .
وأخشى أن نسير على خطى بني إسرائيل الذين بدأوا بالتشكيك في أنبيائهم ثم رموهم بالنقائص ثم رموهم بالكبائر ثم قتلوهم ، وما أخطر البداية ، فإذا ضاعت الثقة في أنبياء الله وانحطت النظرة إليهم فماذا يبقى من الدين ؟ .
ولهذا سأتناول في هذا المقال الشبهة التي انتشر إلحاقها بسيرة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز.
ولنتناول هذه المسألة في إيجاز يرضي الشباب ويزيل ما لحق بنظرهم من غشاوة عن عصمة أنبياء الله عليهم أجمعين الصلاة والسلام ، لنستيقن من عصمة نبي الله يوسف عليه السلام من السقوط ولو في ظلام نية السوء أو حتى مجرد الهمّ بفعل كبيرة مع امرأة العزيز.
وهناك قراءات للقرآن تشير أنه من الأفضل قراءة الأية 24 من سورة يوسف بهذا الشكل:
(( ولقد همّت به )) ثم سكوت مع وقف ثم
(( وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه )) ثم إكمال الآية
ويكون المعنى : ولقد بدأت هي بتنفيذ رغبتها بتهيئة الجو والاقتراب منه ، وفكر يوسف في دفعها عنه باستخدام العنف وإيذائها ولكنه لم ينفذ تلك الفكرة لأنه تذكر نبوءة أبيه له وما يُعِدَه الله إليه وما أتاه من القدرة على الحكم الصواب على الأمور والعلم0ولولا ذلك لأردعها عن مبتغاها بالعنف ، ولكنه اكتفى بالجري من أمامها ومحاولة الوصول إلى أحد الأبواب للخروج.
أو قد يكون المعنى : أنها بدأت في تنفيذ ما أرادت ولولا أن يوسف علم مكانته العظيمة في المستقبل (سيكون نبيا وسينصفه الله على كل من ظلمه في الماضي ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب) لكان همّ بها ولكنه لم يفعل واكتفي بأنه حاول الوصول إلى الباب هربا منها .
********
{{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ، قال معاذ الله ، إنه ربي أحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به ، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين}}
1)- راودته : أي حدث منها ملاطفة لسيدنا يوسف واحتالت كثيرا كي تقترب منه ، وتقربها قابله سيدنا يوسف بالرفض ، و لفظ (راودته) يؤكد أنها هي التي راودته ، وفعل المراودة يقتضي وجود طرفان الأول يفعل الشيء والطرف الثاني يفعل عكسه ، مثل المراوغة والمبارزة ، طرف يهاجم وآخر عكسه يدافع ، وبما أنها أرادت الفاحشة فإذن يوسف أراد الفضيلة فكرا وفعلا .
2)- غلقت الأبواب : بدأت في تنفيذ رغبتها ولكنه لم يتجاوب معها .
3)- هيت لك : تصريج بالرغبة ولكنه رفض واستعاذ من الوقوع في الإثم الذي تدعوه إليه
4)- معاذ الله : استعاذ سيدنا يوسف بحماية الله منها ، ولاذ بحفظ الله وحصنه من رغبتها ، ولو كان له رغبة أو حتى نية دفينة في مقدمات الفاحشة ما استعاذ بالله .
5)- إنه ربي أحسن مثواي : هذ القول من سيدنا يوسف يحتمل أحد مقصدين الأول : إن الله ربي أحسن مثواي بأن كتب لي أن أعيش في رغد هذا القصر بعد أن ألقى بي إخوتي في ظلمات الجب فلن أعصيه بارتكاب هذه الكبيرة ، والمقصد الثاني قد يكون : إن زوجك الذي تريدين خيانته معي والمسؤول عني والذي أعالني وكفلني منذ طفولتي حتى بلغت رشدي وأحسن إلي فلن أخونه لأن المعترف بالفضل لا يخون صاحب الفضل عليه .
6)- قوله عليه السلام ((إنه لا يفلح الظالمون)) : يؤكد أنه يريد الفلاح وينأى بنفسه عن الظلم ، ومن يريد الفلاح لا يفكر في السوء والفحشاء ، ومن يمتنع عن الظلم لايقع في المعصية لأن وقوعه عليه السلام في مثل هذه المعصية يعني أنه ظلم نفسه (بإكسابها السيئات ويمنع رحمة ونعمة الله عنه التي بشره أبوه بهما في بداية صباه ، وبإضاعة أمله في أن ينصفه الله من ظلم إخوته له) وظلم آل يعقوب (لأنه إذا وقع في تلك المعصية لن يُتِمْ الله عليه ولا على آل يعقوب نعمته التي أنبأه بها أبوه يعقوب عليه السلام) وظلم امرأة العزيز (لأنه أعانها على الذنب وطاوعها) وظلم رب البيت الذي يعيش فيه ـ عزيز مصرـ (لأنه خان من ربّاه وآواه) .
7)- وفي الآية (6) من السورة نبأ سيدنا يعقوب ولده يوسف أن الله سيختاره كنبي ويعلمه تأويل الأحلام ويتم نعمته عليه كما أتمها على الأنبياء من قبله ، فسيدنا يوسف يعلم مسبقا ما يعده الله له ولا يمكن أن يعرف إنسان عاقل أنه مُعَد لأن يتبوء مكانة عظيمة كالنبوة ثم يُلوّث سيرته بارتكاب ولو نية المعصية .
8)- همّت به : بدأت بتنفيذ ما حدثتها به نفسها وصَرّحت به ، ويكون بعد هذه الجملة وقف في التلاوة ، ثم يتم إكمال التلاوة " وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه " في جملة واحدة
9)- همّ بها : كلام الله في الآية يعني أن الهممان من ناحية امرأة العزيز لا يساوي الهممان من ناحية يوسف عليه السلام ، والوقف المطلوب في معظم المصاحف بعد جملة (وهمّت به) ومنع الوقف بعد جملة (وهمّ بها) يؤكد اختلاف نوع الهمّ بين الطرفين ، فهمّ امرأة العزيز بدء في تنفيذ رغبتها .
وهمّ سيدنا يوسف إما يكون كما فسره الشيخ الجليل محمد متولي الشعراوي : لولا أنه يعرف دليل نبوته التي ألهمه الله إياه لحدثته نفسه بالمعصية ـ لأن الهمّ من ناحية يوسف هو حديث النفس بالشيء فقط وبعدها إما يفعل وإما لا يفعل ـ إذ أن (لولا) حرف امتناع حدوث الشيء ، أي أن حتى حديث النفس هذا لم يقع ، وكذلك لفظ (إلا) في قوله ((إلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن)) .
وأما رأي الشخصي أنه : بما أن امرأة العزيز بدأت تنفذ رغبتها بالعنف والقوة رغما عنه فبالتالي هو يدافع عن نفسه بالعنف أيضا أي أنه همّ بأن يدفعها عنه ويحمي نفسه منها ولو بإيذائها .
10)- لولا أن رأى برهان ربه : (البرهان) هو الحجة والدليل إلى الحكم السليم على الأمور للوصول إلى القرار الصائب ، و (لولا) حرف امتناع فنقول " لولا أني صائم لأكلت معك" إذن أنا لم آكل ، أي أنه لم يهم بفعل الفاحشة لأنه رأى برهان ربه ، والرؤية المقصودة في (رأى برهان ربه) هي المعرفة المسبقة بأن الله سيتم عليه نعمة النبوة ، مثل قولنا "رأى موافقته" أي عرفها .
11)- قوله نعالى في الآية (24): ((لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)) بالإضافة إلى قوله تعالى في الآية (40 الحجر) حيث استثنى الشيطان عباد الله المخلصين من استطاعته إغوائهم أو الوسوسة إليهم بالمعاصي ، فالآياتان تؤكدان أن ليس للشيطان سبيل لا في فِكْر سيدنا يوسف ولا في نواياه ولا في أفعاله .
12)- لفظ (أكبرنه) في الآية (30) : وكذلك جملة ((ما هذا بشرا )) تعني أن النسوة وضعوه في مكانة كبيرة (أكبر من أن يقع في شبهات الفاحشة) ولا يخطأ أخطاء البشر أو هفواتهم ، بل أكملوا قولهم ((ملك كريم)) أي حتى عندما وضعوه مع الملائكة وصفوه بالكرم ، والملك العادي لا يجول بخاطره السوء فم بالنا بالملك الكريم ؟ .
13)- لفظ (فاستعصم) في الآية (31) : يعني أنه امتنع عنها بالكامل فكرا وفعلا ، ولو أنه كان همّ بالفعل ثم تردد أو امتنع ـ كما يردد بعض الجهلة وأعداء الإسلام ـ لأحست امرأة العزيز منه هذا الميل أو التردد ولأمهلته الوقت وعاودت الكرة مرات حتر يرضخ لكنها علمت وتأكدت أنه لا فائدة منه فكشفت أمرها أمام زوجها وادعت أنه هو الذي أراد منها السوء وسبق واتفقنا أن السوء مقصود به مقدمات الزنا .
14)- قول النسوة في الآية (51) ((ما علمنا عليه من سوء)) بالإضافة إلى قول امرأة العزيز في الآية (53) ((إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)) أرى والله أعلم أن الجملة الأولى تنفي عن يوسف فعل السوء والجملة الثانية تنفي عنه نية السوء ، فالمرأة لديها حاسة فطرية لتعلم سرائر الرجال ونياتهم ناحيتها خاصة فيما يخص العاطفة والرغبة .
15)- الآية (33) تؤكد أن سيدنا يوسف يفضل السجن على 1- الرذيلة . و2- عن عصيانه ربه . و3- عن فوات النعمة . و4- عن خيانة سيده ومربيه .و5- عن أن يكون من الظالمين الفاسدين ..." قال رب السجن أحب إالي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين"
16)- الوقوع في المعاصي للأنبياء محال لأنهم معصومون من الوقوع في الكبائر والصغائر ، ووقوع النبي في الكبيرة أو في الذنب يعني خطأ من الله (سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا) في اختياره لنبيه وإعداده لمهمة النبوة ، أو يعني جهل (تنزه لله عن ذلك وحده المتصف بالكمال) من الله بأن الشخص الذي اصطفاه للنبوة سيقع في معصية أو شك في قدرة الله (القوي العزيز) على حماية نبيه من الشيطان وإغوائه ، ثم أن النبوة اصطفاء ، والصفوة من البشر ينأون بأنفسهم عن الوقوع في المعاصي فما بالنا بمن صار منهم نبيا ، وقد اتفقت الأمة على أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يتعلق بتبليغ الوحي ، أما ما سوى ذلك من أحوالهم فمذهب السلف على أن الرسل بشر إلا أن الله عصمهم من كبائر الذنوب وصغائرها التي تدل على خساسة الطبع، صيانة لعلو مكانتهم.
وأما صغائر الذنوب التي لا تدل على خساسة قدر ، وضِعة منزلة ، فمذهب السلف جواز وقوعها من الأنبياء ، إلا أن الله لا يقرهم عليها بل سرعان ما ينزل الوحي مصححا وهاديا، وقد ذكر الله لنا بعضا مما وقع من أنبيائه ، مما عاتبهم عليه وأرشدهم فيه ، من ذلك قوله تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم : { عبس وتولى ، أَن جاءه الأعمى } (عبس:1-2) .
17)- قوله عليه السلام ((وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين)) : أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها، وأكن من الجاهلين أي ممن يرتكب الإثم ، أو ممن يعمل عمل الجُهّال ، وقد ثبت في الآيات السابقات أن الله قد آتاه علما وحكما ، إذن لم يمل ولم تحدثه نفسه باتباع إغوائهن له بالفاحشة .
18)- جملة ((من بعد أن رأوا الآيات)) : أي من بعد ما رأوا من علامات عفة وعصمة يوسف عليه السلام (والرؤية هنا أيضا بمعنى العِلم كما هو المقصود نفسه في قوله (( رأى برهان ربه))) أن يسجنوه كتماناً للقصة ألا تشيع في العامة، وللحيلولة بينه وبينامرأة العزيز والنسوة .
ويقول الشيخ الجليل محمد متولي الشعراوي رحمه الله : لنتناول أطراف هذه القصة ومواقفهم وأقوالهم فيها لنحكم الحكم السليم على موقف سيدنا يوسف بأنه لم يهمّ لا تفكيرا ولا فعلا بمجاراة امرأة العزيز فيما دعته إليه ، ووفقا لترتيب الأحداث في الآيات نجد :
سيدنا يوسف : "هي راودتني عن نفسي" و "معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون" و " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه" و "إلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن" والصبو هنا بمعنى حديث النفس بالشيء مثل الهمّ وحرف (إلا) أصله (إن لم) وبما أن الله صرف عنه كيدهن فهو لم يصبُ ولم تحدثه نفسه بالفاحشة أبدا ، إذن ليس له رغبة ولا نية في فعل الفاحشة .
امرأة العزيز : "أنا راودته عن نفسه فاستعصم" و "ولئن لم بفعل ما آمره ليسجنن" إذن هي التي فعلت كل شيء ولم يفعل هو أي شيء والدليل أنه سُجِنَ بعد ذلك .
نسوة المدينة : "فلما رأينه أكبرنه " و "وقلن حاش لله ما هذا بشرا ، إن هذا إلا ملك كريم" و "قلنا حاش لله ما رأينا عليه من سوء " .
الله (جلّ جلاله) : "آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين" و "كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين" و "فصرفنا عنه كيدهن" والفحشاء يقصد بها هنا الزنا ، والسوء أقل من الزنا أي المقدمات ومنها الهمّ ، إذن ربنا صرف عن يوسف الاثنين الزنا وكل مقدماته .
الشيطان : ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين" (الحجر 40) .
الشاهد : شهد في صفه في الآيتين 26 و 27 من سورة يوسف .
" ...وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدًّ من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قُدًّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رءا قميصه قُدًّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم"