الطير المهاجر           

 المحرر : سمية محمد بدرى

 

نظرة واحدة لـ " سفينة الحياة " .. تلك التى تبحر بنا وسط بحر الواقع الفياض ، تُرينا أننا جميعاً فى طوق نجاة واحد تحتضنه جدران تلك السفينة وتسير به .

منا من يسير بنور الذات الداخلى يوجهه إلى طريق الخلود ، ومنا من يتيه من ذاته بل ويكتب لحياته الضياع فى سبيل العدم .

لكن ..

هناك دائماً ذلك الطير المهاجر الذى يحمل غاية وجوده ويضمها بين جناحيه .. يتشبث بها ، و تلتصق به وبوجوده ، فهو منذ أن تشرق شمس يومه يسلك دربه وسط سرب المهاجرين  ، توجهه غايته وشعاع نوره الداخلى .

نعم .. طير مهاجر فى وطنه ، بل لم يكن له يوماً وطن سوى سرب الخالدين .

إنه المرابط فى سبيل الله .. وفىّ العهد الذى قطعه مع رب الوجود والعالمين.

فجهاده حمله بدايةً على تخطى جهاد  دواخله قبل الجهاد المادى، فلم يُشاهد أحد ظفر بالجهاد الأصغر دون الجهاد الأكبر إلا نادراً جداً .

لم يكن صِغر ذلك الجهاد الأصغر  إلا بقياسه بالجهاد الأكبر ، وإلا فهو عظيم بعظمة جنة خلد صاحبه .

الإنسان كل الإنسان ، فى الأرض كل الأرض مكلف بأداء هذه الفريضة ضمن إطار موضعه وموقعه وأحواله، وحسب إمكاناته ‏وطاقته.

فذاك المُبَلِغ العظيم ، يبدأ بجهاد نفسه الذى تتسع دائرته العظيمة فيما بعد لتشمل كل عمل يصله بعلياء سماء محبوبه القدير، فيحب كل ما عنده وتشتهى نفسه وتتوق إلى ذاك الجهاد المادى الذى يشهد معه - وبعد توازن كفتى الجهاد فى حياته- حياة ً له أخرى يحوم طيفها الجميل حوله فى كل مرة من مرات الشوق له ، فيدفعه ذلك ليروى عطش أخوة فى الإنسانية من " ظمأى القلوب" .

إنّ لكل من الإيمان والجهاد علاقة وطيدة بالآخر، فالمؤمن هو ذلك الإنسان الذى يجد حياته الحقيقية فى تلك الموازنة بين شقى الجهاد – جهاده الأكبر وجهاده الأصغر- بل ليس  للحياة وجود فى غياب تلك الموازنة العظيمة  ..

 لذا فكل ٍ من هؤلاء المؤمنين يستوفى أجره بكل عمل يشارك به فى تلك المأدبة الخالدة وكل خطوة يخطوها نحو حياة الشهادة .

يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :

"رِبَاطُ يَومٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوضِعُ سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَروحُهَا العَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ أو الغَدْوَةُ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ".

إنهم يسيرون بثقة نحو ذلك الفوز العظيم فى جنة الخلد – بإذن الله -  يسيرون بخطيً ثابتة .. تُشعر كل من يراهم أن الجهاد لديهم يولد جهاداً أكبر وأعظم ، وكل خير يمضون فيه يكون وسيلتهم إلى فيوض من الخيرات الهائلة ، فقد كُتب لسبلهم الهداية والتوجيه أينما ساروا

" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".

فهذا المؤمن يسير نحو تلك الغاية السامية  وربما يبلغها أو لا يبلغها ، لكنها عنده سواء لأنه ينتظر الرحمة والجزاء من رب رحيم ودود ، ينتظر رحمات السماء الحنون ،  وليس جزاء الأرض العادل .

إنّ الجهاد بحق إنما هو ذاك الذى يتحقق معه الفتح والفلاح لدواخل الإنسان – الجهاد الأكبر - ، والجهاد المادى – الجهاد الأصغر - .. الجهاد المادى الذى يهون دونه كل شىء .. الدنيا ومتاعها وملذاتها والجسد وأهوائه وشهواته .

إن المجاهد .. ذاك المرابط فى سبيل الله إنما هو ذاك الإنسان الذى يمض بتوازٍ فى دربى الجهاد .. الداخلى الذاتى ، والخارجى المادى ، فلا يعيقه أبداً انشغاله بإصلاح الذات عن يدٍ يمدها إلى الآخرين ممن يسترشدون بوجهته ولا يستمع الى القول "كل شاة تناط برجليها" ؛ لأنه يعلم أن تقويم الذات صراع لا ينتهى إلا بانتهاء عداد العمر فى تلك الحياة  (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) .

والرسول صلى الله عليه و سلم يقول :

 (كُلُّ الْمَيِّتِ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلاَّ اْلمُرَابِطَ، فَاِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ )

" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ " .

كل الأمة اليوم فى أمس الحاجة إلى أمثال ذاك الطير المهاجر..المخلص القلب الذى يجد فى كل سبيل يسلكه نحو ربه الكريم ملاذاً له عن كل ما سواه .فيمضى بسفينته وسفينة مجتمعه نحو بحار الهداية والرشاد ، بدلاً من الغرق فى وحل الذل والانقياد لأوثان الحياة ، أو السجود والانصياع لطغاة بغاة .

 


عدد الزيارات : 383

Share

مقالات ذات صلة :
  • مقدمة

  • أما آن لموتى القبور أن يستيقظوا؟!!

  • الفرار

  • الجسد

  • العار

  • مباراة متوازنة جداااااااا

  • صدر الحكم يا سادة

  • إنا لله وإنا إليه راجعون

  • يا رسول الله

  • خواطر من يوم أكتوبر

  • ترنيـمة الغربــاء

  • التجربة المخيفة _ الجزء الأول

  • التجربة المخيفة _ الجزء الثاني

  • دروب الوهم والأمل

  • شـــــذرات

  • مع كل رشفة صباحية

  • قصيدة الحب روض بابه الإخلاص

  • صاغها الفؤاد وقالها اللسان

  • رحلة إلى مدينة البالونات

  • الحب الحقيقى

  • أنـــا الفاتــنة

  • أين ذهب مذاق السكر ؟

  • عمر ذات الثالثة عشر عاما يدرس في الجامعة الأمريكية

  • قصيدة مثل أسلافهم

  • ذكرى موت القلوب

  • قصيدة إلى متى ؟؟

  • شاب عراقي يحل لغز أرقام برنولى

  • الـــــغــــراب

  • في موقف الأتوبيس

  • إرادة حديدية

  • القرش

  • تخيل

  • مستشفى 57357

  • امسك العصابة

  • ياريتنى أكون

  • الإرهابي

  • آه يا قلبي

  • هذه هي همة الصغار ... فأين منها همة الكبار؟

  • انا هى تلك الفتاة

  • ما زالوا يطرقون ابوابنا

  • مصر هتتغير بأيدينا.. تجربة رائعة لمواطنة مصرية

  • رجب و موسوعة جينيس

  • وصل صوتك مهما كانت الضغوط

  • رمضان بالمغرب

  • بأي جديد جئت يا عيد!!

  • المزيد.......
    التعليقات :


  • hala     الطير المهاجر

    سلمت يداكى على هذا الموضوع الاكثر من رائع كل كلمة فيه اتت على الجرح يا ريتنا نكون مثل هذا الطير المهاجر .........واتمنى من الله ان نكون صادقين ومخلصين النيه للقاء الله احيكى على الاسلوب الرائع والعرض المميز
  • أيمن     الطير المهاجر

    يقول الشاعر : "الناس صنفان موتى في قبورهم وآخرون ببطن الأرض أحياء" فاختار أي الأصناف أردت أن تكون وجزاك الله خيرا على الموضوع الرائع وجمال التعبير عنه

  • الاسم
    البريد الالكتروني
    العنوان 
    التعليق