دعوة للحياة فى ظلال القرآن           

 المحرر : سمية محمد بدرى

                               

                            

تلك الدعوة إنما هى تجربة سطرها واقع الحياة فى إحدى القلوب المسلمة، أدركت أهمية العيش بروح مسلمة تهيم فى جو الاطمئنان الى كلام الكريم الرحمن، بعد أن تاهت روحها بالعديد من مراحل الحياة، وتقاذفتها تجاربها المريرة.

إن لتلك الحياة مذاق مختلف، لا يدركه إلا من افتقده بحياته يوم من الأيام ثم عاودته تلك النفس اللوامة إلى الصراط المستقيم بعد أن حاد عنه.

مذاق تهيم معه فى عالم من النور الفياض الذى سينير لك جميع دروب الحياة ودون سعى منك..

مذاق تدركه فقط من شعرت التيه وتجرعت مرارة الذل والعبودية للحياة بدونه.

لذا كان لابد من دعوة نطلقها حتى تبلغ عنان السماء، دعوة نور، ومشعل هداية إلى الحياة فى ظلال القرآن الكريم على نهج الله المستقيم.

دعوة إلى من يبحثون عن الحياة ـ والحياة ـ بحق ... حياة الدارين الممتدة بوصال إلى نبع فياض من السمو والكمال..

 فالقرآن الكريم هو كتاب هذه الأمة الحى ورائدها الناصح، وأنه هو مدرستها، التى تتلقى فيها دروس حياتها، وأن الله هو المربي، ولقد أراد الله سبحانه أن يكون هذا القرآن هو الرائد الحى الباقى بعد وفاة الرسول )صلى الله عليه وسلم )، لقيادة أجيال هذه الامة، وتربيتها وإعدادها لدور القيادة الراشدة، الذى وعدها به كلما اهتدت بهديه، واستمسكت بعهدها معه، واستمدت منهج حياتها كله من هذا القرآن، واستعزت به، واستعلت على جميع المناهج الأرضية الجاهلية .

إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى ولكنه دستور شامل .. دستور للتربية، كما أنه دستور للحياة العملية .. وقد تضمن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية من لدن آدم عليه السلام ..، وقدمها زاداً للأمة المسلمة فى جميع أجيالها . تجاربها فى الأنفس، وتجاربها فى واقع الحياة، كى تكون الأمة المسلمة على بينة من طريقها، وهى تتزود لها بهذا الزاد الضخم، وذلك الرصيد المتنوع .

إن هذا القرآن ينبغى أن ُيقرأ ، وأن ُيتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعى .، وينبغى أن ُيتدبر على أنه توجيهات حية تتنزل اليوم لتعالج مسائل اليوم، ولُتنير الطريق الى المستقب، لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل، أو على أنه سجل تحقيقه مضى ولن يعود ...ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه، لنتلمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة، فى يومنا وفى غدنا، كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر فى شؤون حياتها الواقعة .

ففى هذا القرآن نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة المسلمة، وهو يصنعها على عينيه ويربيها بمنهجه، ويشعرها برعايته، ويبنى فى الضمير الشعور الحى بوجوده سبحانه معها فى أخص خصائصها، وأصغر شؤونها، وأخفى طواياها، وحراسته لها من كيد أعدائها خفية وظاهرة، وأخذها فى حماه وكنفه وضمها إلى لوائه وظله وتربية أخلاقها وعاداتها تربية تليق بالجماعة التى تنضوى الى كنف الله، وتنتسب إليه .. وتؤلف حزبه فى الأرض وترفع لواءه لتعرف به فى الأرض جميعا .

إن هذا القرآن أتى بتوجيهاته وأسسه لكى ينشأ الجماعة المسلمة الأولى، وهذه التوجيهات والأسس هى، هى ما تزال ضرورية لقيام الجماعة المسلمة فى كل زمان ومكان . وإن المعركة التى خاضها القران، هى المعركة ذاتها التى يمكن أن يخوضها فى كل زمان ومكان . لا بل إن أعداءها التقليدين الذين كانوا يواجههم القرآن، ويواجه دسائسهم وكيدهم ومكرهم .. هم هم .. ووسائلهم هى هى، تتغير أشكالها بتغير الملابسات، وتبقى حقيقتها وطبيعتها .

وتحتاج الأمة المسلمة فى كفاحها وتوقيها الى توجيهات هذا القرآن، حاجة الجماعة المسلمة الأولى، كما تحتاج فى بناء تصورها الصحيح، وإدراك موقفها من الكون والناس إلى ذات النصوص والتوجيهات، وتجد فيها معالم طريقها واضحة، ويظل القرآن كتاب هذه الأمة العامل فى حياتها، وقائدها الحقيقى فى طريقها الواقعى.، ودستورها الشامل الكامل الذى تستمد منه منهج الحياة، ونظام المجتمع وقواعد التعامل فى كل شىء ... وما يزال هذا المنهج الذى خرج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان، لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين، ولو آمنت حقًا بهذا القرآن، وجعلته منهجاً للحياة، لا كلمات تتلى باللسان لتطرب الآذان .

ولقد سلك القرآن شتى السبل، واتبع شتى الأساليب ليواجه شكوك القلب البشرى وانحرافاته وآفاته، ويأخذ عليها المسالك، ويعالجها بكل أسلوب . وفى أساليب القرآن المتنوعة زاد للدعوة وللدعاة إلى هذا الدين، ويجب على الداعيةأن يرجع إلى القرآن دائما، فيشعر أن ربه يؤويه إلى كنفه، ويمسح على آلامه، ومتاعبه، ويهدهده، ويسرى عنه ويهون عليه مشقّة ما يلقى من عنت الجاهلية ووئها وتطاولها ... فيفيض الله عليه بالثقة والطمأنينة، وينسم عليه من أنسام الرعاية و اللطف والمودة .

فالقرآن هو المدرسة إلالهية ... إنه من صانع القلوب، وخالق كل شىء بقدر، من هذه المدرسة إلالهية يتخرج الدعاة المستجابون الموفقون ... تخلص نفوسهم لدعوة الله فلا تضن عليها بشىء ... ولا تحتجز دونها شىء، لا الأرواح ولا الأموال، ولا خلجات القلوب، ولا ذوات الصدور ، وهى الحقيقة التى تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض ... موازينها هى موازين الله، والقيم التى تعتز بها وتسابق إليها هى القيم التى تثق فى هذه الموازين.

إن هذا القرآن يبنى عقيدة المسلم وتصوره وأخلاقه ومشاعره وأوضاعه، إلى جانب تعليم الجماعة المسلمة كل شىء عن طبيعة أعدائها ووسائلهم، ويحذر من كيدهم ومكرهم، ويوجههم إلى المعركة معهم بقلوب مطمئنة وعيون مفتوحة، وإرادات محشودة، ومعرفة بطبيعة المعركة وطبيعة الأعداء ... لقد كان فى القرآن كل شىء .. وهو ما زال فيه كل شىء، يخوض المعركة بالجماعة المسلمة فى كل جبهة ... يخوضها فى الضمائر والمشاعر، حيث ينشأ فيها عقيدة جديدة ومعرفة بربها جديدة، وتصوراً للوجود جديداً، ويقيم فيها موازين جديدة، وينشىء إليها قيماً جديدة، ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية .. ويمحو ملامح الجاهلية فى النفس والمجتمع ، وينشىء ويبُث ملامح الإسلام الوضيئة الجديدة ... ثم يقودها فى المعركة مع أعدائها المتربصين بها فى الداخل والخارج . وهى على أتم استعداد للقائهم والتفوق عليهم بمتانة بنائها الداخلى الجديد: الاعتقادى والأخلاقى والاجتماعى والتنظيمى سواء .

لقد ربّى الله هذه الأمة بمنهج القرآن حتى وصلت إلى المستوى الذى تؤمن فيه على دين الله ... لا فى نفوسها وضمائرها فحسب، ولكن فى حياتها ومعاشها فى هذه الأرض، بكل ما يضطرب فى هذه الحياة من رغبات ومطامع، وأهواء ومشارب، وتصادم بين المصالح، وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدى دوراً واحداً فى النهاية، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها وبمشاعرها واستجاباتها وبسلوكها وأخلاقها وبشريعتها ونظامها، لأن تقوم على دين الله فى الأرض ولأن تتولى القوامة على البشر .

وحقق الله ما يريد بهذه الأمة والله غالب على أمره، وقامت فى واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين الله فى واقع، وتملك البشرية أن تترسمه فى كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها الله .

لذلك يجب أن نعيش فى جو القرآن، وإن الحياة فى جو القران، لا تعنى مجرد دراسته وقراءته، والإطلاع على علومه ... إن هذا ليس جو القرآن، إن الحياة فى جو القرآن، هو أن يعيش الإنسان فى جو وفى ظروف وفى حركة وفى معاناة وفى صراع وفى اهتمامات ... كالتى كان يتنزل فيها هذا القرآن .. أن يعيش الإنسان، فى مواجهة هذه الجاهلية، التى تعم وجه الأرض اليوم، وفى قلبه، وفى همّه وفى حركته، أن ينشىء الإسلام فى نفسه وفى نفوس الناس  وفى حياته، وفى حياة الناس، والذين لا يعيشون فى مثل هذا الجو معزولون عن القرآن، مهما استغرقوا فى مدارسته وقراءته والإطلاع على علومه .

ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل فى حسنا، ونستحضر فى تصورنا أن هذا القرآن خُوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقى، ووُجهت به أحداث واقعية فى حياة هذه الأمة ، ووجهت به حياة إنسانية حقيقية فى هذه الأرض؛ وأُديرت به معركة ضخمة فى داخل النفس البشرية وفى رقعة من الأرض كذلك .. معركة تموج بالتطورات والإنفعالات والإستجابات .

وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التى تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان، والتى تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداث حية، ذات كينونة واقعية حية؛ ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيهاً واقعياً حياً، نشأ عنه وجود، ذو خصائص فى حياة " الإنسان " بصفة عامة، وفى حياة الأمة المسلمة بوجه خاص .

فلنعُد إلى هذا القرآن الذى يصفه الله لنا :

)) قدْ جاءكم من اللهِ نورٌ وكتابٌ مُبين يهدى بهِ اللهُ من اتبعَ رضوانه سبلَ السلام، وُيخرِجهم من الظُلماتِ إلى النور بإذنه ويهديهمْ إلى صراطٍ مُستقيم)).

ما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات .. من كل ألوان الحرب فى الضمائر والمجتمعات قرونا بعد قرون ... ما أحوجنا نحن الذين عشنا فى هذا السلام فى فترة من تاريخنا ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التى تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا ... بينما نملك الدخول فى السلم الذى منحه الله لنا فى ظل القرآن حين نتبع رضوانه ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا .

وأخيراً إنّ الحياة فى ظلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكّيه، أما آن لنا أن تدرك تلك النعمة نفوسنا وتنعم بها حياتنا .

 

المصادر:

 فى ظلال القرآن   سيد قطب .


عدد الزيارات : 388

Share

مقالات ذات صلة :
  • مقدمة_الدين المعاملة

  • جدد نيتك

  • رســالة من الحيـاة

  • زهقان مضايق

  • قاوم نفسك

  • مواعيدك تمام ولا…!!!

  • وشاورهم في الأمر

  • الحياء خلق الإسلام

  • التكافل ضرورة شرعية

  • العدل أساس الملك

  • تهادوا ... تحابوا

  • اللى خلقك مش حينساك.....

  • دعوة للحب بس بشرط

  • رحلة حب

  • الرفق أساس الحياة

  • أحسن ظنك ...يطمئن قلبك

  • عقيدة الروح

  • غربة رسالة

  • الحلم سيد الأخلاق

  • الرضا...جنة الدنيا

  • وما صبرك إلا بالله

  • أقـــــوال أعجبتني

  • مراجعات ذاتــــيـــــة

  • متعة العطاء

  • بين ظلمة اليأس ...ونور الأمل

  • المفتاح السحري

  • السفور رذيلة

  • لمن يبغى النجاح

  • اشمعنى أناااا؟؟؟؟

  • معاً على خطى الحبيب

  • ابدأ بنفسك

  • مناجاة القلوب

  • إنها قصة حبي

  • اقرأ ..... نعم أنا بقارئ

  • أيوة طبعاً حسنة و أنا سيدك

  • وأقبل الضيف..

  • متطوعة في التأمين الصحي

  • من الفائز؟

  • وبالوالدين إحسانا

  • شريك حياتي

  • خلاف أم اختلاف

  • تربية الأبناء

  • إنما الأعمال بالنيات

  • ثقافة الاختلاف

  • كن قدوة _ حوار طفل مع أسرته

  • هكذا يجب أن يكون دعاؤنا

  • وفى المنع حكمة

  • المزيد.......
    التعليقات :



    الاسم
    البريد الالكتروني
    العنوان 
    التعليق