دفعني مشاهدتي لأحد البرامج التليفزيونية إلى الكتابة والتعبير عما رأيته فقد رأيت سيدة أقل ما يقال عنها أنها معدمة لا تملك من حطام الدنيا شيئا فاقدة لبصرها وقد تخلى عنها أولادها ولكنها غنية بنعمة كبيرة لا يملكها الكثير من أصحاب الملايين ولا ذوى المناصب ، إنها سيدة مسنة وفقيرة لكنها غنية بنعمة الرضا فهي دائما تردد الحمد لله أنا أفضل من غيري ، هذه السيدة أمدتني بطاقة كانت بعيدة عنى في ذلك الوقت وشعرت وقتها أنني لا ينقصني شئ وأنني أفضل من ملايين البشر وأن من فقد نعمة الرضا فقد حرم الخير كله.
حقا إنها نعمة غالية وهى عبادة قلبية تغيب عن الكثير فيشعر بالسخط والضجر ولا يتلذذ بما أعطاه الله من نعم فيجد نفسه دائما في حالة سخط ومقارنة بين ما عنده وما عند غيره ولو أنه أعطى الرضا لقنع بالقليل ووجد حلاوة تملأ نفسه وسعادة تغمر حياته.
وعندما تأملت مع نفسي هذه النعمة وجدت أن منبعها الإيمان بالله وقضائه واليقين بأن ما يمر به الإنسان من سراء أو ضراء إنما هو الخير كله وأن ما منع منه أو أعطى له هو الأفضل دائما .
دارت في نفسي عدة تساؤلات عن الرضا مما جعلني أبحث وأتعمق لمعرفة المزيد عن هذه العبادة القلبية التي تورث السعادة والطمأنينة.
ما مفهوم الرضا وهل الرضا يساوى الصبر على البلاء؟
الرضا ضد السخط ، ويُراد به : يقبُّل ما يقضي به الله ـ عز وجل ـ من غير تردد ، ولا معارضة.
وقال الإمام الجنيد يرحمه الله الرضا: هو صحة العلم الواصل إلي القلب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم ، أدّاهُ إلي الرضا .
وقال ابنُ عطاء الله يرحمه الله الرضا : هو سُكون القلب إلي قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل ، فيرضي به .والرضا ثمرة من ثمار المحبَّة ، وهو من أعلي مقامات المقرّبين ، وحقيقة غامضة علي الأكثرين .
والصبر والرضا لا يتساويان بل الرضا يفوق الصبر في المنزلة ، فالصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع.
أما الرضا فهو انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وان وجد الإحساس بالألم ..لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة وإذا قوى الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية.
ولما كان الرضا نتيجة يقين وإيمان كامل بقضاء الله وحكمه فإنه لا شك له ثمار جمة منها:
** أنه يُوجِبُ الطُّمأنينة ، وبرد القلبِ ، وسكونهُ وقراره وثباتهُ فيثقُ هذا القلبُ بما وعد الله ويقولُ لسانُ الحالِ : ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ .
**كما أنّ الرضا يُنزلُ عليه السكينة التي لا أَنْفَعَ له منها ، ومتى نزلتْ عليه السكينةُ ، استقام وصلحتْ أحوالُه ، وصلح بالُه ، فمنْ أعْظَمِ نعمِ اللهِ على عبدِه : تنزُّلُ السكينةِ عليهِ ومنْ أعظمِ أسبابِها : الرضا عنه في جميعِ الحالاتِ .
**الرضا يخلِّصُ العبد منْ مُخاصمةِ الربِّ تعالى في أحكامِه وقضائه.
**لا فائدة في السُّخطِ : فعدمُ الرَّضا : إمَّا أنْ يكون لفواتِ ما أخطأهُ ممَّا يحبُّه ويريدهُ ، وإمّا لإصابةٍ بما يكرهُه ويُسخطُه . فإذا تيقَّن أنَّ ما أخطأه لم يكُنْ ليُصيبَه ، وما أصابه لم يكنْ ليُخطئه ، فلا فائدة في سخطِه بعد ذلك إلا فواتُ ما ينفعُه ، وحصولُ ما يضرُّه . وفي الحديث: " جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ يا أبا هريرة ، فقدْ فُرِغَ من القضاءِ ، وانتُهِي من القدرِ ، وكُتِبتِ المقاديرُ ، ورُفِعتِ الأقلامُ ، وجفَّتِ الصُّحُفُ"
**السلامةُ مع الرِّضا : الرضا يفتحُ له باب السلامةِ ، فيجعلُ قلبهُ سليماً ، نقيّاً من الغشِّ والغلِّ ، ولا ينجو منْ عذابِ اللهِ إلا منْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ ، وهو السَّالِمُ من الشُّبهِ ، والشَّكِّ والشِّركِ ، فهذا القلبُ ليس فيهِ إلا اللهُ: ﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ . وكذلك تستحيلُ سلامةُ القلبِ من السُّخطِ وعدمِ الرضا ، وكلَّما كان العبدُ أشدَّ رضاً ، كان قلبُه أسْلَمَ . فالخبثُ والغشُّ قرينُ السُّخطِ وسلامةُ القلبِ وبرُّه ونُصحُه قرينُ الرضا .
فعن أنس رضى الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي له الرضا ، ومن سخط عليه السخط" رواه الترمذي.
وقال عبد الواحد بن زيد: "الرضا باب الله الأعظم ،وجنة الدنيا، ومستراح العابدين".
وقال بعض السلف: "لن يُرى في الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى في كل حال، فمن وهب له الرضا فقد تبلغ أفضل الدرجات"
ولعلنا نتساءل كيف يمكننا أن نصل لدرجة الرضا الكامل؟
الأمر ليس بالصعب فهناك عدة خطوات عملية يمكننا أن نسلكها لنصل إلى هذه النعمة منها :
1- اصنع كل ما يحب الله أن تصنعه :
فكل ما يحبه الله يرضاه منك ، من الأقوال والأفعال والظاهرة والباطنة ، لأن حقيقة الرضا هي العمل الصالح ، في امتثال أمر الله واجتناب نهيه، يقول تعالى :
}إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه{ البينة / 7 ـ 8 .
2- ارض عن ثلاثة أشياء :
تعيش سعيدًا، وكأنك في الجنة، يقول النبى صلى الله عليه وسلم : "ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً".
3- ارضَ بقدر الله حلوه ومره :
وقل دائماً : "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن".
4- مواجهة عدم الرضا وإنكار الخطايا من الآخرين:
حتى لا يتسمم جو الرضا، يقول صلى الله عليه وسلم :"إذا عملت الخطيئة في الأرض ، كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها ، كان كمن شهدها "إن مجرد الرضا عن انتشار الفساد والخطايا على الأرض ، وإن لم يشهدها الإنسان ، لأنه في بلد آخر ، فبمجرد الرضا بها , كأنه شاهد هذا الفساد ، أو هذه الخطيئة .
5- التوكل الحقيقي عـلى الله تعالى :
لأنـه من الوسـائل الـقوية في تحـقيق الرضا ، يقـول تعـالى} وعـلى الله فـتوكلوا إن كـنتم مـؤمنين { المائدة - 23-
ويقول تعالى }ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون{ التوبة - 59
وفى ذلك يقول ابن كثير : فالرضا سبق التوكل في قوله } وقالوا حسبنا الله{ ، أي إنهم بتوكلهم الحقيقي كانوا راضين حق الرضا ، فقبل المقدور يسمى توكل وبعد المقدور هو رضا ، وقبل القضاء تفويض وبعد القضاء رضا وتسليم ، وفى كلٍ هو رضا .
6- الابتعاد عن السخط :
فالسخط من شقاوة العين ، أن يسخط الإنسان بما قسم الله له ، وبذلك يحزن على ما فات ، لأن الحزن يخرج عن الرضا ، عندما بكى النبى صلى الله عليه وسلم عند مرض سعد بن عبادة ، قال لمن حضر ": إن الله لا يعذب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا " وأشار إلى لسانه) .أى حينما تخرج منه كلمات السخط ، والاعتراض على ما قسم الله له .
7- الرضا بالمقسوم من الرزق :
فما هو مقسوم لك فهو واصل إليك ، والرضا بالمقسوم من الرزق يدفع إلى العمل ، ويمنح الإنسان قوة على التكسب ، وليس معناه الاستسلام .
8- الرضا بالمصيبة هو أن أتأكد من أنها من عند الله :
وهذا هو التسليم لله ، يقول ابن مسعود في تفسير قوله تعالى } ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ، ومن يؤمن بالله يهد قلبه{ التغابن - 11 قال : والرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويسلم
حتى في هذه اللحظات التي يصاب بها الإنسان بالجزع والهلع وفداحة المصاب ، فيتمنى الموت .
أيها الإنسان أناجي قلبك.. فيا إنسان.. لا يُشقيك حرمان الرضا فكل جراح الحرمان تندمل إلا جُرح حرمان الرضا مسكين إن حُرمت الرضا فهمومك لمن تبثها!!وأشجانك تبعثها لمن؟!!
كيف لا وقد حُرمت كل شيء أوليس الرضا كُل شيء دموعك لمن وشكواك إلى من؟ كيف لا وقد حرمت العطاء من المعطي كيف لا وقد قُوبلت بالجفاء من رب الأرض والسماء كيف لا وقد فقدت المعين والمجيب والقريب والنصير والحبيب.
أعلمت الآن ما أقسى حرمان الرضا!
مصائب وابتلاءات.. محن وفاجعات تعصف بكل فرد؛ تقذف به هنا وهناك، ولكن من سكن الرضا قلبه غشيته الرحمة ، فظل رغم الأذى يكسوه الرضا ويا روعة ذلك! من منا لم يئن من المصيبة، ويبكي الألم، من منا لم يمزقه حدث، ويهزمه جرح هنا فقط يفيض نور الرضا يهِبُه الله لمن يحب.. فما أروع الحب والرضا! فالرضا تمام المحبة ويعقبه الاقتراب فما أروع أن يقترب العبد من جلال المولى جل وعلا فيعيش عذب المحيا وإن تراءى للناس الشقاء.
ومن مظاهر الرضا عند الصحابة أن سعد بن أبي وقاص قدم إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة … قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم.. فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك. فتبسم وقال: يا بُني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.
ومما يدل على علوِّ قدر الرضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله الرضا بالقضاء، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسال ربه إلا أعلى المقامات.
وكان السلف رضي الله عنهم يتواصون بالرضا وتربية النفس عليه، لعلمهم بعلو منزلته، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيقول: "أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".
وكان من وصايا لقمان عليه السلام لولده : "أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت".
فعلى الإنسان أن يقنع بما قدَّره الله عزَّ وجلَّ، فإن كان معافى في جسده من الأمراض، ويعيش في أمانٍ دون خوف، ويملك قوت يومه فلا يبيت جوعان، وجب عليه -بهذه النعم الثلاث- أن يحمد الله حمد الراضين، وليتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنَّما حيزت له الدنيا" رواه الترمذي .
وأختم مقالتي بهذه الأبيات الشعرية للإمام الشافعي رحمه الله:
دع الأيام تفعل ما تشـــاء وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجـــزع لحادثة الليالي فمـــا لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الأهوال جلدا وشيمتك السماحة والوفــاء
المصادر:
تم الاعتماد على :
كتاب لاتحزن للدكتور عائض القرنى
http://majdah.maktoob.com/vb/majdah17960/
مقال بعنوان الرضا بقضاء الله – د. أحمد فريد
http://www.quran-radio.com/ahwal_elkoloob5.htm