ورد في الصحيحان عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم و عنده بن أبي أمية و أبو جهل ، فقال له يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله " فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟
فأعاد النبي صلى الله عليه و سلم ، فأعادوا فكان آخر ما قال هو : على ملة عبد المطلب و آبى أن يقول :"لا إله إلا الله " ، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم :" لأستغفرن لك مالم أنه عنك "
فأنزل الله عزو وجل " ما كان للنبي و الذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية 113 سورة التوبة . رواه البخاري في كتاب المناقب و رواه مسلم في كتاب الإيمان
هذه الرواية رغم بساطة كلمتها و قلة سطورها فإنها تحمل في طياتها ما تعلمنا بها كيف ينشأ الاختلاف مع الأخر وكيف نتعامل مع هذا الاختلاف و هذا ما سنوضحه في السطور القادمة : كيف ينشأ الاختلاف :
1- " إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء " إن ما تحمله هذه الآية من معنى ليرق له القلب إن وعاه جيدا ، فإننا نقسى على من نحب أو على من يخالفنا بدعوى إصلاحه ، نغفل عن أن ما بأيدينا هو البيان فقط و ليس هدى القلوب و العقول ، كما أن الله عز و جل لم ينهانا عن حب من يخالفنا و نخالفه و إنما أقر بحبنا له و تعاطفنا معه و الشفقة عليه إما لصلة تجمعنا به من قرابة أو صداقة أو أرضا نعيش عليها ، و يرزقنا هو منها جميعا .
2- أترغب عن ملة عبد المطلب فقد آثروه بهذه العبارة حتى قاوم الحق الذي يعرفه جيدا ، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل البيئة المحيطة بالآخرين و التي تؤثر تأثيرا قويا عليهم ، بل هي التي تشكل تكوينهم الفكري و الثقافي و الاجتماعي و تنساب أيضا إلى طريقة و مدى تقبلهم للاختلاف ، فعندما لفظ أبو جهل و أمية هذه العبارة ذكروه بأهله و عشيرته و نشأته و ما عاش عليه فعزف عن الحق و اشترى الباطل وهو يعلم لما لبيئته عليه من سلطان بالرغم من سيادته على قومه فيستطيع أن يفعل ما يشأ دون أن يؤذيه أحد ، كما أنه على فراش الموت و ليس لأحد عليه من سلطان إلا الله . لكن البيئة لها تأثير ليس من السهل التدخل فيه و تغيره وهو ما يطلق عليه اسم تعظيم الأسلاف .
3- التغيير لا يأتي في لحظة و الرفض الفطري للتبعية . فلابد من تمهيدات كثيرة للإقناع حتى لانثيرعنجهية من نتحوار معه ، فالتغيير الفكري و الإيمان به لابد أن يصحبه فعل كي يثبته و يقويه ، فهناك قاعدة في البرمجة اللغوية العصبية NLP تقول بأنه لابد للمرء أن يتذكر فعلا إيجابيا قام به و يتعايش مع حالته آن ذلك حتى يستطيع ا لثبات على معتقداته . إذا لابد من ممارسة الإيمان و على ذلك فإننا لا نستطيع أن نلزم الأخرين بمعتقداتنا و إنما نعرضها بالقول و الفعل .
أسباب اختلاف بني أدم في العقائد : إن أعظم أسباب اختلاف بني أدم في رأيي هو الغلو في الدين كما جاء في قول الله عز وجل "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق " 171 النساء (3)
كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد / للشيخ المجدد / محمد عبد الوهاب رحمه الله ، ومعه القول السديد في مقاصد التوحيد للشيخ /عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله ، دار الدعوة الإسلامية بالمنصورة ، الطبعة الأولى ، 1426هـ -2006 م وفي "الصحيح" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى : "وقالوا لا تذرن ألهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث و يعوق و نسرا " 23 نوح ، قال :"هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا و سموها بأسمائهم ففعلوا ، و لم تعبد حتى إذا هلك أولئك و نسي العلم ، عبدت " (4)
رواه البخاري في كتاب التفسير
بينما قال بن القيم : أنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم و الغلو"
"صحيح " رواه النسائي في كتاب مناسك الحج ، وصححه الشيخ الألباني
يتضح لنا من هذه الآيات والأحاديث أن :
1- أن قدرة الله في تقليبه قلوب العباد لعجب شديد ، فمن أصلاب المؤمنين نجد من يشركون, و المشركون يذرهم فيؤمنون فإنما هي قدرة الله ومشيئته في خلقه .
2- عبادة الأصنام و المخلوقات من البشر الصالحين أو البقر أو النيران .... وغيرها ، إنما هي من المبالغة و الغلو في علاقة البشر بربهم فكلنا يعلم أن لنا إله "ولئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله " و كل منا يتحسس وجوده في حياته فمنا من ييسر الله طريقه فيهديه إليه ومنهم من يظل يبحث حتى يجده و منهم من يجد إلها و يعبده و يستشعر الإيمان به ولا يتسلل إليه الشك في بطلان عقيدته ، فإنما نقوم بالفعل لإيماننا بأن هذا الفعل صحيح, والمخالف لنا أيضا يفعل كذلك .
3- خلط الدين بالعقل ، فإننا في بعض الأحيان نجد من يرد كل شئ إلى العقل حتى العقيدة و العبادات و حتى في أوامر الله و نواهيهيه و يجادل و يكثر المجادلة و يطيل بها ويضيع الوقت بها فيذهب به عقله عن الله و هو يظن أنه يتقرب إليه ، فهو لم يؤمن بمحدودية قدراته العقلية أمام علم الله .
4- قبول البدع مع رد الشرائع فيتسبب تأويلها إلى ضياع الهدف الحقيقي منها الذي نشأت من أجله ، فزيارة القبور مثلا للوعظ و تذكر الأخر ولكنها أصبحت الآن نوع من أنواع تعذيب النفس و الميت أيضا .
5- نسيان العلم سبب في الضلال ، فما ضل قوم نوح إلا عندما فقدوا العلم بموت العلماء ففي الحديث بيان لمعرفة قدرة وجود العلم و مضرة فقده .
ويمكننا تخليص كل هذه الاختلافات بيننا و بين الأخر في حقوق ثلاث نؤديها جميعا و لكن نختلف في تطبيقها .
1- حق خاص لله لا يشاركه فيه مشارك وهو تأليهه ، و عبادته و الرغبة و الإنابة إليه ، حبا و خوفا ورجاء .
2- حق خاص للرسل . وهو توقيرهم و تبجيلهم ، و القيام بحقوقهم الخاصة الشهادة لهم بتبليغ الرسالة .
3- عبادات . وهو الإيمان بالله و رسله ، وطاعته ورسله .
ومن خلال التفكر في هذه الحقوق جيدا يتسنى لنا معرفة جوهر اختلافنا مع الأخر ، فمثلا إذا أردنا التطبيق على الحق الأول و هو حق الله نجد أن هناك من يحب المال حتى أنه يصير له عبدا و يبجل مرسله إليه ، كما أن لديه استعداداً كبيراً لفعل كل ما يعتقد أنه يقربه منه وعن تأثير هذه الاختلافات في حياتنا و كيف نتعامل معها هذا ما سنواصل الحديث عنه فيما بعد إن شاء الله
سبحانك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
|