نحن الآن على ضفاف نهر بردى بين أشجار اللوز والليمون في دمشق عام 99 للهجرة , و البلدة خالية الطرق مغلقة الحوانيت , لا تكاد ترى فيها أحدا, و ذلك لاختيار الخليفة الجديد.
و في داخل القصر كانت نساء الأمراء من بني أمية يترقبن الاختبار. و كل واحدة منهن تأمل أن تكون البشارة لها بأن زوجها هو الذي انتخب للخلافة بعد سليمان. و كان في طرف المجلس فتاة بارعة الجمال . لم تر العين أبهى من حظها، ولا أعرق من نسبها حين تطل بمحياها يختبأ المجد خجلاً من أصالتها وعظيم شرفها... لا تشاركهن في رغبة و لا خشية و لا أمل, و كأنها قد قنعت بما نالت فما تطلب فوقه مزيدا.
إنها فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وليدة قصر الخضراء بيت الخلافة الأموي سيدة منذ نعومة أظفارها... إنها بنت الخليفة و أخت الخلفاء و زوجة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. كانت تجلس فاطمة في طرف المجلس مترفعة عمن فيه, و إذا بصوتي يملأ جوانب القصر إعلان تسمية أمير المؤمنين الجديد: عمر بن عبد العزيز !
و تسربت إلى القصر أخبار عجيبة عن الخليفة الجديد, فمن خادم يدخل مسرعا يخبر أن الخليفة رفض مراكب الخلافة و ألغى الموكب المعتاد و ركب دابته...و أخر يأتي يقول أن الخليفة أعلن إلغاء حفلات البيعة بما كان لها من العظمة و الجلال....و ثالث يقول انه أبى أن يمد يده إلى شيء من أموال الخزانة.....!
و تسمع فاطمة هده الأخبار فلا تكاد تصدقها ! أنها تعرف زوجها الغارق في الرفاهية و النعيم...فما له يعرض عن الدنيا التي جاءته مقبلة عليه ؟ عاد الخليفة إلى قصره, و لكنه عاد رجلا جديدا.
تفاجأت به يذرف الدموع فتهدئ من روعه وتسأله عما أصابه وهو اليوم خليفة للمسلمين فيجيبها وقد أجهش في البكاء: يا فاطمة لقد أصبت كرباً ففكرت بالفقير الجائع والمسكين الضعيف والمظلوم المقهور فعلمت أن الله عز وجل سائلي عنهم يوم القيامة لتستيقظ بهذه الكلمات على الواقع الجديد الذي فرضته أعباء الخلافة على زوجها الحبيب لترجع بخطاها إلى عهد خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام حين نظروا إلى الحكم مكلفين لا محبين فتعلم أنها الآن لا تقف أمام ابن عمها الأمير الأموي ... بل تقف أمام حفيد عمر بن الخطاب الذي فرق الحق عن الباطل وأنها منذ هذه اللحظة مقبلة على حياة ربما لن ترتضيها الكثير من النساء حين تطغى الدنيا بزخرفها الفاني على نعيم الآخرة الباقي عند ضعيفات النفوس..
ثم قال لزوجته : لا أريد ظلمك, و اخشي ألا تصبري على ما اخترته لنفسي من ألوان العيش, فان شئت سيرتك إلى دار أبيك...
قالت : و ماذا أنت صانع ؟
قال: إن هذه الأموال التي تحت أيدينا و تحت أيدي إخوتك و أقربائك, قد أخذت كلها من أموال المسلمين, و قد عزمت على ردها منهم و ردها على المسلمين. و أنا بادئ بنفسي, و لن استبقي إلا قطعة ارض لي اشتريتها من كسبي, و سأعيش منها وحدها. فان كنت لا تصبرين على الضيق بعد السعة فالحقي بدار أبيك !
قالت: و ما الذي حملك على هذا ؟
قال: يا فاطمة إن لي نفس تواقة, ما نالت شيئا إلا اشتهت ما هو خير منه, اشتهيت الإمارة, فلما نلتها اشتهيت الخلافة, فلما نلتها اشتهيت ما هو خير منها, و هو الجنة !
و كان ردها: اصنع ما تراه فانا معك, و ما كنت لأصاحبك في النعيم و ادعك في الضيق, و أنا راضية بما ترضى به.
و بدأ عمر فاعتق الإماء و العبيد, و سرح الخدم, و ترك القصر, و رد ما كان له فيه إلى بيت المال و سكن دارا صغيرة شمال المسجد.
و جاءه في خلافته بياع قماش يعرض عليه ثوبا ثمنه ثمانية دراهم, فقال عمر: انه حسن لولا انه انعم مما ينبغي !
فقال الرجل: لقد جئتك و أنت أمير المدينة بثوب ثمنه خمسة ألاف درهم, فقلت لي : انه حسن لولا انه خشن !
و لم يدع من الخدم إلا غلاما صغيرا, كان هو الخادم الوحيد في قصر الخلافة, فوضعت له فاطمة الطعام يوما فضجر الخادم و تبرم و قال : عدس ! عدس ! كل يوم عدس ! قالت فاطمة: يا بني , هدا طعام مولاك أمير المؤمنين!
و اشتهى الخليفة يوما العنب فقال : يا فاطمة أعندك درهم نشتري به عنبا ؟ قالت : أنت أمير المؤمنين و لا تقدر على درهم تشتري به عنبا ؟ قال : يا فاطمة, ما بقي لي إلا هذه القطعة من الأرض, و ريعها لا يكاد يقوم بحاجاتي, و الصبر على هذا أهون من الصبر على نار جهنم.
و في يوم جاءت أعرابية تريد لقاء الخليفة فدلها الناس على بيته، فوجدته بسيطا. فطرقته لتفتح لها الباب امرأة امتلأت يداها بالعجين، فسألتها الأعرابية عن الخليفة عمر بن عبد العزيز، فطلبت منها المرأة أن تنتظر للحظات ريثما يأتي الخليفة وإذا بجانب حائط البيت رجل يصلح الجدار، وقد علقت بقع الطين بيديه وثوبه.. فنظرت الأعرابية إليه مستغربة من جلوس هذه المرأة التي تعجن العجين أمام هذا الطيان الغريب و لم تتستر منه.
فبادرتها بالسؤال عن هذا الطيان ؟ وكيف تجلس أمامه دون أن تستر نفسها؟
فتجيبها ضاحكة: إنه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وأنا زوجته فاطمة..!!
وجاء التحول السريع لحياة فاطمة من سيدة آمرة ناهية إلى امرأة بسيطة تغسل ثوب زوجها الأوحد الذي لا يملك سواه وتعجن العجين وتطهو الطعام راضية النفس مطمئنة البال باختيارها. لم يغير حياتها فحسب بل غير نظام الحكم الأموي، فلم يتجاوز العامين وبضعة أشهر، حتى عم الخير أرجاء البلاد من أقاصي الشرق عند نهر سيحون إلى أقاصي الغرب في المغرب والأندلس حتى أن عامل الخليفة على الصدقات يطوف بالصدقة فلا يجد من يقبلها فلله درك يا حفيد الفاروق !!
و لم يكن قد بقي لفاطمة من أيام النعيم إلا جواهرها, فقال لها يوما : يا فاطمة , قد علمت أن هذه الجواهر قد أخذها أبوك من أموال المسلمين و أهداها إليك, واني اكره آن تكون معي في بيتي . فاختاري إما أن ترديها إلى بيت المال أو تأذني لي في فراقك !
قالت: بل اختارك والله عليها و على أضعافها لو كانت لي ! و ردت الحلي إلى بيت المال.
و مات عمر بن عبد العزيز و بكت فاطمة أسفا عليه حتى عشي بصرها. فدخل عليها أخواها مسلمة و هشام يسليانها و يعرضان عليها ما شاءت من الأموال.
قالت : والله ما ابكي على مال و لا نعمة, و لكني رأيت منه منظرا ذكرته الآن فبكيت
. قالا: ما هو ؟
قالت: رأيته ذات ليلة قائما يصلي, فقرا (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث, و تكون الجبال كالعهن المنفوش ) فشهق من البكاء حتى ظننت أن نفسه قد خرجت. فما صحا حتى ناديته للصلاة.
و لما ولي أخوها يزيد الخلافة رد عليها حليها, فقالت:لا ولله أبدا, ما كنت لأطيعه حيا و أعصيه ميتا. لا حاجة لي بها...
تلك هي سيدة بني أمية التي حفرت في أعماق التاريخ بصمات واضحة لحسن الاختيار فكانت نبراساً يهتدي بها نساء المسلمين إلى قمة العظماء … رحم الله فاطمة بنت عبد الملك
المصادر
قصة سيدة من بني أمية من كتاب قصص من التاريخ للشيخ على الطنطاوي
قصة سيد القصور لموقع التاريخ