قيود هلامية..رقيقة المنظر..جميلة المظهر..أخّاذة للروح.. تذوب معها كل التحديات.. تتلوّن وتتكيّف بكل ألوان النفس .. تعطى البريق اللامع للحياة وملذّاتها ، وتدعو الكل للسباحة في بحرها المظلم وأمواجها العاتية .. فإذا افتقد السبّاح التقوى ؛ فقد كُتب عليه التيه الذي تضيع معه البصيرة ، ويختفي خلاله كل إحساس بقيمة الحياة ..!!
وعندها .. تدور دوامات تلك القيود بالنفس ، فلا تملك نفسها عن الدوران .. وما أن تفرغ من فك إحداها ، حتى تلتحم بالأخرى لتجد نفسها داخل دائرة مفرغة لا تنتهي إلا بانتهاء آخر نَفَس لها في الحياة.
وهكذا .. تصبح الحياة ، لحظة..فيوم..فشهر..فسنة.. فأعوام تمضى دون أن تدرك النفس ما تؤول إليه من تلك الحياة، حتى يفاجئها مالم تضعه في الحسبان حين دخلت تيه تلك القيود اللانهائي ..!!
عندها .. تدرك النفوس أن الخدع البصرية والقلبية لتلك القيود الحريرية هي ما تجذب الإنسان نحوها مؤكدةً له أنها مطلب كل إنسان ، وأنّ هذا هو الدور الذي كُتب له في الحياة .. ذلك أن أن أعداء النفوس التائهة هم من تفننوا في صناعة تلك القيود ، وقاموا بالعناية بها حتى كبرت وملأت كيان الفرد ، وكانت في مقدمة اهتماماته ، بل أخذت جُلّ .. إن لم يكن كل حياته ..
وتبدأ النفوس الصالحة في التساؤل : هل إلى خروج من سبيل ؟
ويُنعم الرحيم الودود عليها بالفهم الذي يمُن بها على عباده الصالحين القانتين الذين يسألونه الهداية والتوجيه، و يبحثون دائماً عمَ يعزز صلتهم ووصالهم بمن يفيض وصاله على الخلق أجمعين، ويجتهدون في البحث عن طريق الهداية والنعيم المقيم ..
يُنعم الرحيم الودود عليهم فيخرجهم من التيه في ظلمات الحياة، ذلك التيه الذي لا يدرك ضبابيته وخداعه للأبصار غير أولى الأبصار النقية التي تسعى إلى الحق كمطلب وحيد للحياة ..!!
يُنعم عليهم ، فيهتدون السبيل الوحيد الذي يكشف عن النفس الضبابية ، وعن القلب الخديعة ، وعن العقل التيه ..
إنه الإيمان .. روح الإسلام الذهبية، الذي تجد معه النفس كل ما تتمنى من الحياة الفانية، وكذا أقصى ما تتمنى من دار الخلود المقيم.
الإيمان بالله العلى القدير.. صاحب الصنع البديع.
الإيمان بوجوده ، وبتملكه لمقاليد الحياة بأكملها وبقدرته على تسخيرها لأصحاب النفوس المطمئنة.
الإيمان بعظمته وعظمة ذاته العلية،مع دنو النفس البشرية.
الإيمان بعطفه وجوده وكرمه، مع قسوة وحقد وشح النفس البشرية.
الإيمان بألوهيته وحده وحقه في العبادة وحده، ونبذ أي مصدر للعبودية داخل النفس سواه.
حينها فقط.. ينعم الرب الكريم على النفس بالإخلاص والصدق والتوجيه ، ويمدها بالزاد الذي سيعينها على تحمل مشاق الطريق.. زاد التقوى الذي ستذوب معه كل الصعوبات، وتتفتت دونه كل العوائق والقيود .. {وَمَنْ يَتقِ اللهَ يَجْعلْ لَهُ مَخْرجاً وَيَرزقهُ مِنْ حَيثُ لا يَحْتسبْ }.
عندها .. تجد الذات بداخلها بوصلة التوجيه وشعلة النور التي ستوجهها نحو الحياة الخالدة..{ إنْ تَتَقُوا اللهَ يَجْعلْ لَكمْ فُرقَاناً وَيُكفْر عَنكمْ سَيئاتِكُمْ ويَغفرْ لَكُمْ، واللهُ ذُو الفَضلِ العَظيم }.
عندها .. تصبح قيود النفس .. القيود الحريرية ، تصبح هلامية القوام ضعيفة ، لا تقوى على الوقوف في مواجهة النفس المطمئنة الطامحة لرغد العيش في الجنة .. الزاهدة في النعيم الفاني ..
تلك النفس الطاهرة السامية ، التي تهفو بحب مولاها إلى أعلى المراتب حتى لتشتم رائحة الجنان دون أن يتلمسها جسدها .. لأنها أدركت حقيقة الحياة ، وطبيعة الرسالة الإلهية في الوجود الإنساني .. أدركت ذلك كله يوم أن تخلصت من قيودها .. " القيود الحريرية " ..
المصادر
كتاب حياة لا تغيب لسمية محمد محمد بدري