اليوم معنا صفحة جديدة من صفحات التاريخ ... صفحة قد تختلف عن سابقها...فليس فيها فتح عظيم أو بطل مغوار ... و لا قائد عظيم و لا فارس حطين ... و لكنها صفحة تجعلنا نفتح أعيننا و نرى الحقيقة ...معنا اليوم قصة من الأندلس سابقا... و أسبانيا حاليا ...
كان يومئذ صغيراً لا يفقه شيئاً مما كان يجري في الخفاء. كان يرى أباه يضطرب كلما عاد من المدرسة و تلي عليه ما حفظ من " الكتاب المقدس" و ما تعلم من اللغة الإسبانية. ثم يتركه ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار و يلبث فيها ساعات طويلة. لا يدري ما يصنع فيها، ثم يخرج منها محمر العينين. وكانت أمه تشيعه كلما ذهب إلى المدرسة، حزينة دامعة العين، وتقبله بشوق وحرقة ولا تفارقه إلا باكية. ثم إذا عاد من المدرسة استقبلته بلهفة واشتياق.
وكان يرى والداه يبتعدان عنه، ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الإسبانية ، فإذا دنى منهما قطعا الحديث، وحوّلاه، وأخذا يتكلمان بالإسبانية. فيعجب ويتألم، ويذهب يظن في نفسه الظنون. وتوالت عليه الآلام فأورثته مزاجاً خاصاً، يختلف عن أمزجة الأطفال، الذين كانوا في مثل سنه، فلم يكن يشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، فيجلس وحيداً و يضع رأسه بين كفيه ، ويستغرق في تفكيره ليجد حلاً لهذه المشكلات ... حتى يجذبه ألخوري من كم قميصه، ليذهب إلى الصلاة في الكنسية.
وولدت أمه صبي جميل و لكنه لم يرى على وجه أمه أو أبيه ابتسامة ، و ذهب أبيه إلى ألخوري، فدعاه ليعمد الطفل، وأقبل يمشي وراءه، وهو مطرق برأسه إلى الأرض، وعلى وجهه علامات الحزن المبرح، ، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمه ... فرأي في وجهها شحوباً هائلاً ، و تدفع إليه الطفل خائفة حذرة.. ثم تغمض عينيها.
حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في النور ، والصلبان تومض على شرفاتها ومآذنها، فدعاه أبيه في جوف الليل، وأهل الدار كلهم نيام، فقاده صامتاً إلى غرفته، إلى حرمه المقدّس، فلما توسط به الغرفة أحكم إغلاق الباب، ثم أشغل سراجاً صغيراً كان هناك، فتلفتّ حوله فلم يرى إلا بساط وكتاب موضوع على رف، وسيف معلق بالجدار، فأجلسنه على هذا البساط ... ثم أخذ أبيه بيديه بحنو وعطف، وقال له بصوت خافت:
يا بني، إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلاً، وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك، فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟
إ إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال " ديوان التفتيش" .
فلما سمع اسم ديوان التفتيش ارتجف ، وقد كان صغيراً حقاً، ولكنه يعرف ما هو ديوان التفتيش، ويرى ضحاياه كل يوم، فمن رجال يصلبون أو يحرقون، ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتن، أو تبقر بطونهن، فسكتُ ولم يجب.
فقال له أبيه : مالك لا تجيب! أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟
قلت: نعم
قال: تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك؟
قلت: نعم
قال: أقترب مني. أرهف سمعك جيداً، فإني لا أقدر أن أرفع صوتي. أخشى أن تكون للحيطان آذان، فتشي بي إلى ديوان التفتيش، فيحرقني حياً.
فاقتربت منه وقلت له: إني مصغ يا أبت.
فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف، وقال: أتعرف هذا الكتاب يا بني؟
قلت: لا
قال: هذا كتاب الله.
قلت : الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع بن الله.
فأضطرب وقال: كلا، هذا هو القرآن الذي أنزله الله، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، على أفضل مخلوقاته، وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله النبي العربي صلى الله عليه وسلم.
ففتح عينه من الدهشة، ولم يكد افهم شيئاً.
قال: هذا كتاب الإسلام، الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى الناس كافة.. فظهر هناك.. وراء البحار والبوادي.. في الصحراء البعيدة القاحلة.. في مكة ، مختلفين، مشركين، جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد، وأعطاهم به الاتحاد، والقوة، والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب، حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة، إلى إسبانيا، فعدلوا بين الناس، وأحسنوا إليهم، وأمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمائة سنة...، جعلوها فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا.
نعم يا بني نحن العرب المسلمين..
فلم يملك لسانه من الدهشة والعجب والخوف، وصاح:
ماذا.؟ نحن؟ .. العرب المسلمين!
قال: نعم يا بني. هذا هو السر الذي سأفضي به إليك... نحن أصحاب هذه البلاد، نحن بنينا هذه القصور، التي كانت لنا فصارت لعدونا، نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن، فصار يقرع فيها الناقوس، نحن أنشأنا هذه المساجد، التي كان يقوم فيها المسلمون صفاً بين يدي الله، وأمامهم الأئمة، يتلون في المحاريب كلام الله، فصارت كنائس يقوم فيها القساوسة والرهبان، يرتلون فيها الإنجيل... ولكن منذ أربعين سنة.. أسامع أنت؟ منذ أربعين سنة خدع الملك البائس أبو عبد الله الصغير، آخر ملوكنا في هذه الديار، بوعود الأسبان وعهودهم، فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأباحهم حمى أمته، ومدافن أجداده، وأخذ طريقه إلى بر المغرب، ليموت هناك وحيداً فريداً، شريداً طريداً وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والاستقلال. فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فأنشئوا ديوان التفتيش، فأدخلنا في النصرانية قسراً، وأجبرنا على ترك لغتنا إجباراً، وأخذ منا أولادنا، لينشئهم، على النصرانية، فذلك سر ما ترى من استخفائنا بالعبادة، وحزننا على ما نرى من امتهان ديننا، وتكفير أولادنا.
هذا هو السر يا بني فاكتمه، واعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك، ولست والله أخشى الموت أو أكره لقاء الله، ولكني أحب أن أبقى حياً، حتى أعلمك لغتك ودينك أنقذك من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، فقم الآن إلى فراشك يا بني.
و علمني أبى العربية و أتقنتها ، وفهمت القرآن، وعرفت قواعد الدين، فعرفني بأخ له في الله، نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا.
واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش، وزاد في تنكيله بالبقية الباقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم حتى يكون فيه عشرين أو ثلاثين مصلوباً، أو محرقاً بالنار حياً، ولا يمضي يوم حتى يسمعوا فيه بالمئات، يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم.
واستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا وأني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة، فأفوز بها فوزاً عظيماً، ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر، وحملتك الأمانة الكبرى، التي كدت أهوي تحت أثقالها، فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء.
ومرّت على ذلك أيام، و في ليلة دعاني عمي و أمرني أن أذهب معه، فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب بلد المسلمين فأقول له : أبي وأمي.؟
فيعنف عليّ ويشدُّني من يدي ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟
فأمضي معه صاغراً كارهاً، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشملنا الظلام، قال لي:
اصبر يا بني.. فقد كتب الله لوالديك المؤمنين السعادة على يد ديوان التفتيش.
ويخلص الغلام إلى بر المغرب ويكون منه العالم المصنف محمد بن عبد الرفيع الأندلسي.
المصدر
كتاب قصص من التاريخ للأستاذ الشيخ على الطنطاوي قصة محمد الصغير