هبطت الطائرة التى كانت تقلنى أرض مطار القاهرة مساء الأربعاء السادس عشر من فبراير، فى اليوم الخامس بعد إنتصار ثورة مصر. كنت أتوقع رؤية مصر فى ردائها الجديد بعد الثورة، ولم يكن ذلك الرداء خافيا على أحد بعد ثلاثة أسابيع من مشاهد نضال المصريين ضد الحكم الفاسد. وكان ما رأيته فى أول خطواتى داخل مبنى المطار إشارة أكيدة لولادة مصر الجديدة بعد الثورة. رأيت وجوها مبتهجة وسمعت أحاديثا فيها الكثير من التفاؤل بمستقبل مصر. رأيت علم مصر فى أيدى الكثيرين، ولمست معاملة مهذبة من ضباط الجوازات وإختفى من المشهد ذلك العدد الكبيرالمعتاد من جنود وضباط الشرطة حيث كان جهاز الشرطة فى أجازة بعد تشرذمه أثناء إندلاع الثورة.
قضيت أيامى الأولى أتجول فى شوارع القاهرة بين المصريين وهم مستبشرون بعهدهم الجديد. وجدت شبابا متطوعين ينظفون الشوارع ويطلون الأرصفة وأعمدة الإضاءة بألوان العلم المصرى الأحمر والأبيض والأسود، رأيت الناس يتبادلون التهانى والحلوى فى الشوارع. كنت أتصنت على أحاديث الناس لأستشف معالم الروح المصرية الجديدة. كان أغلب الحديث يدور حول الثورة وتطلعات المستقبل. سمعت شابا يقول لفتاته "أنا عايز ابني يطلع ثوري"، وآخر يقول لزملائه "آدى بلدنا شافت النور". لكن أكثر ما هزنى كان مشهد عائلة بسيطة، الأب والأم يجلسان على سور وأمامهما طفليهما يلعبان بالكرة على رصيف الطريق. ثم تدحرجت الكرة متجهة نحو الطريق فجرى الطفل خلفها، ولما لحظته أمه انطلقت خلفه وهى مذعورة صائحة بأن يقف مكانه، وعندما وصلت إليه بدأت تنهره وتضربه، فما كان من الأب إلا أن صرخ فيها "ما تضربيش الواد، مفيش ضرب بعد النهارده". هنا أدركت أن درس الثورة قد بدأ يأخذ طريقه إلى نفوس وسلوك الناس.
كنت فى ميدان التحرير يوم جمعة النصر (الثامن عشر من فبراير). لم أفرح بمصر فى حياتى فرحة كهذه، ولم أشهد بمصر فى حياتى جموعا كهذه. كنت قطرة فى بحر من مليونى قطرة أو أكثر من جموع المصريين، أغلبهم من الناس البسطاء، سكان مصر الأصليين، وقود الثورة وغايتها. بمجرد دخولى الميدان غمرنى إحساس رهيب، وانهمرت دموعي وأنا أستمع إلى طبول الفرح من حولى، لقد رأيتُ مصرَ فى ردائها الجديد وسمعتُ مصرَ بصوتها الحر لأول مرة. هتافات تعلو فوق الفوارق الطبقية والطائفية والمهنية بين أبناء الشعب: "شدى حيلك يا بلد الحرية بتتولد"، "قولها يا مصرى بأعلى صوت مصر حتكبر موش حتموت"، "قالوا علينا شعب جبان آدى الشعب فى الميدان"، "قولها يا مصرى قولها قوية مصر حتبقى ديموقراطية"، "بقيتى يا مصر حرة ومبارك برّة برّة". كلمات خرجت من القلوب إلى الحناجر ومنها إلى الدنيا بأسرها. لكن الهتاف الذى رجّ الميدان والذى علمت فيما بعد أنه تردد على ألسنة الملايين بشكل عفوى لحظة إعلان سقوط الرئيس السابق كان: "ارفع راسك فوق ... إنت مصرى". وقد تحول هذا الهتاف إلى أغنية جميلة كتب كلماتها الشاعر جمال بخيت " ارفع راسك فوق، بلدك طالعة لفوق، ياللى كسرت الطوق، ياللى جبت نصرى".
لقد كان منظرميدان التحرير مهيبا وهو مكتظ بمئات الألوف من الناس ولا موضع لقدم. كان فيه من البهجة والحيوية ما لم أشهده فى حياتى. نعم لقد دبّت الحيوية والنشاط فى جسد مصر الذى لم نكن نعرف قبل الثورة إن كان حيا أو ميتا. الآن تأكد للجميع أن هذا الجسد مازال ينبض بالحياة، بل إنه إستجمع قواه لينطلق على طريق التحرر.
لقد أصبح ميدان التحرير هو القلب النابض لثورة مصر، أصبح المدرسة التى يتعلم فيها الناس خدمة الغير وإنكار الذات وحب الوطن. لقد رأيت فى الميدان فى ذلك اليوم كل دليل على نظام ورقى وإيثار شعب مصر، رأيت أكثر من مليون مواطن يؤدون صلاة الجماعة خلف الإمام يوسف القرضاوى بدون الحاجة لمنظمين. رأيت الملصقات على حوائط المبانى توجه الناس توجيهات حضارية: "من النهاردة دي بلدك إنت ...ماترميش زبالة، ماتكسرش إشارة، ماتدفعش رشوة، ماتزوّرش ورقة". رأيت شبابا يمسكون بخراطيم مياه يسقون منها العجوز قبل الشاب، والطفل قبل الكبير، والمُتعب قبل السليم. رأيت الناس فى إزدحامهم الشديد يعتذرون لبعضهم ويشكرون بعضهم. استندت إلى حائط لأستريح وأستظل به ففوجئت بشخص إلى جوارى يمد لى يده بعلبة ترمس لآخذ منها شيئا. رأيت آلاف الصغار والشباب والأمهات يحملون علم مصر ويغنون لمصر بفخر. لحظتها أدركت أن مصر قد عادت للمصريين. مصر لن تصبح مصر مبارك أو مصر السادات أو مصر موسى أو البرادعى. مصر هى مصر فقط ولكل المصريين.
لقد خرج المصريون - والبسطاء منهم بالتحديد - من النفق المظلم الذى أدخلهم فيه نظام الفرعون، كانوا مقهورين منكسرين فأصبحوا اليوم واثقين فرحين، ليس بسبب إنتصار كروى على دولة شقيقة، أو خطاب فارغ عن أمجاد أجدادهم، أو نعرة عاطفية تلعب على وتر "أم الدنيا"، لكن بسبب ما قدّمت أيديهم، بدماء الشهداء وجروح الآلاف الذين صمدوا فى الميدان. هذا الشعب الذى كان يبدو وكأنه قد رضى بالذل وتعايش معه، هو اليوم يعود وقد نفض كل طبقات الذل التى أهالها عليه فراعينه، فإذا بالملايين تنطلق لتحطم القيود وتدهس الطغاة وتنزح من آبار بلا قرار، وكأن بركة دماء الشهداء قد أزاحت الغشاوة عن أبصار المصريين، فأصبح بصرهم اليوم حديد.
لقد هزم شعب مصر العظيم آلة قمع جبارة كان يملكها نظام مبارك وأعوانه الطغاة. كم من أموال أنفقها وزير الداخلية المخلوع حبيب العادلى - القابع اليوم فى نفس السجن الذى ألقى فيه بأحرار وشرفاء مصر- فى تجميع هذه الآلة القمعية الرهيبة، وكم من أيام قضاها مع أعوانه يخططون للقضاء على أنبل شباب مصر إذا إرتفعت أصواتهم بالإحتجاج على الظلم؟ ثم كيف سقطت كل تلك الآلات والمخططات الجهنمية فى أيام معدودات بمجرد صمود مئات الألوف من المصريين الغير مسلحين أمامها؟
نعم لقد كانت هناك مخططات جهنمية لـ "تذرية" الشعب المصرى، يعنى تفتيت بنيانه ووحدته إلى ذرّات ضئيلة، فرّقوا بين أبناء الشعب الواحد ، فتعالت الحواجز بين الأغنياء والفقراء، والمسلمين والأقباط، و"الوطنى" والمعارضة، بين الواصلين والمنبوذين، والسادة والفرافير، وبين الشرطة والشعب. لكن الشعب العظيم إستجمع قوته ووحدته فى أيام الثورة على مطلب واحد وقام بكل أطيافه يصيح بصرخة مدوية: الشعب يريد إسقاط النظام، وقد تم له ما أراد من إسقاط الرئيس وندعو الله أن يواصل الشعب المسيرة إستكمالا لثورة سلمية لا تُبقى ولاتذر أحدا من أركان النظام البائس الفاسد. فلا يجب أن تتوقف الثورة بعد قطع رأس النظام لأن جسد النظام كله يجب أن يُطاح به فى ثنايا التاريخ.
وأعترف أن التحديات لازالت صعبة لإستكمال مسيرة الثورة، فبوادر قمع الثورة لاتزال حاضرة بشدة فى الحكومة المؤقتة الحالية وهى من صنع مبارك، وفى الجيش الذى لايصلح بالأساس لإدارة الحياة المدنية حتى لو كان ذلك بصفة مؤقتة، وفى الإعلام الحكومى المصرى الذى تقوم عليه نفس الوجوه بإستثناء بعض القيادات التى قدّمها النظام ككبش فداء. لقد تابعت أداء هذه الأجهزة الثلاث أثناء إقامتى فى القاهرة حتى الآن ولم أجدها مختلفة فى المضمون عما كانت عليه. فالثورة إذن مستمرة، وهى قادرة على الإستمرار. لقد إكتسب الشعب المصرى فى أقل من ثلاثة أسابيع خبرات في التنظيم والرفض والمقاومة لم يكتسبها على مدى خمسة آلاف عام من تاريخه.
لكن هذه ليست لحظة خوف على مستقبل مصر، بل هى لحظة نصر وتفاؤل وإستنفار للهمم لإعادة بناء مصر. هذه لحظة إحتفال بمصر وشعبها الطيب وإنجازه التاريخى الرائع الذى سيبقى فى ذاكرة التاريخ. فلنجعلها إذن لائقة بما تستحقه من فرحة وتكريم، ولنستعيد فى هذه المناسبة البهيجة كلمات شاعر مصر الراحل صلاح جاهين التى تحولت إلى واحدة من أجمل الأغنيات على لسان عبد الحليم حافظ. "بالأحضان يا بلادنا ياحلوة بالأحضان، ياما شفتك عالبعد عظيمة يا بلادى يا حرة ياكريمة، إتقوّيت ورفعت الراس، وبكيت فرحة وشوق وحماس، وبقيت ماشى فى وسط الناس متباهى بوطنى فرحان".
لقد كانت مطالب الشعب فى ثورته تدور حول إستعادة الحرية. حرية تكوين الأحزاب السياسية، حرية الإعلام، إلغاء قانون الطوارئ وحل جهاز أمن الدولة وإطلاق سراح سجناء الرأى، وهذه بحق هى الخطوة الضرورية والكافية لإعادة بناء مصر. لكن ماذا عن البناء نفسه؟ ما الذى نريد أن نبنيه لمصر؟ سنبنى المزارع والمصانع، سنبنى المساجد والكنائس، سنبنى المدن الجديدة، سنبنى السلام القائم على العدل، سنبنى مراكز الإشعاع العلمى، سنبنى السلاح الذى سندافع به عن البلاد، سنبنى الثقة فى نفوس المصريين، سنبنى حلم النهضة، سنبنى هذا كله بالحب وبالأحضان لمصر. أدعوك يا عزيزى القارئ أن تستمع للأغنية التى إستنفرت همتى وهمّة ملايين المصريين فى زمن بناء مصر فى ستينيات القرن الماضى عندما كان إيثار الوطن على النفس هو الثقافة السائدة فى مصر، فكلمات هذه الأغنية هى قطعة من نفسى.
"بالأحضان يا مزارع يا مصانع بالأحضان، يا حصاد الثورة يا حلم وعلم، بالأحضان يا مداين يا جناين بالأحضان ياللى إنت بترفع راية السلم، نور عينى وحبايبى وعُزاز قوى على قلبى، ياللى على الجرّار وقُصاد لهاليب الصُلب، يا سواعد عربية ونفوس حُرّة أبيّة يحميكم وتدوم الهمّة ويحيا الشعب".
يحيا الشعب الذى أزاح الطاغية، يحيا الشعب الذى استعاد مصر للمصريين بسواعده العربية ونفوس أبناءه الحرّة الأبيّة. يحميكم وتدوم الهمّة!
محمد شكر – القاهرة
فبراير 2011
|
نرمين
مقال أكثر من رائع
تحيا مصر .. تحيا مصر .. تحيا مصر
|