الاتحاد قوة الضعاف           

 المحرر : محمد شكر



لا أجد رسالة يمكن توجيهها لأهل مصر فى هذه الفترة الإنتقالية الحرجة - على خلفية الحماس بالإنجاز الرائع للثورة - أبلغ من تلك الحكمة الثاقبة التى وردت فى قصيدة "أمّة الأرانب والفيل" لأمير الشعراء أحمد شوقى.  سأنقل القصيدة فى الفقرة التالية، وفيها إسقاطات كانت من ضرورات التعبير فى عصور الاستبداد.   

 

يحكون أن أمَّةَ الأرانبِ \ قد أخذت من الثرى بجانب، وابتهجتْ بالوطنِ الكريمِ \ ومَثَلِ العيالِ والحريمِ، فاختاره الفيلُ له طريقا \ ممزِّقاً أصحابنا تمزيقا، وكان فيهم أرنبٌ لبيبٌ \ أذهبَ جَلَّ صوفهِ التَّجريبُ، نادي بهم يا معشرَ الأرانبِ \ من عالم وشاعرٍ وكاتب، إتَّحدوا ضدَّ العدوِّ الجافي \ فالإتحادُ قوّةُ الضِّعافِ، فأقبلوا مستصوبين رايه \ وعقدوا للإجتماعِ رايه، وإنتخبوا من بينهم ثلاثة \ لا هرِماً راعوا ولا حداثة، بل نظروا إلى كمالِ العقلِ\  وإعتبروا في ذاكَ سنَّ الفصلِ، فنهض الأوّلُ للخطِابِ \ فقال إنّ الرأيَ ذا الصوابِ، أن تُتركَ الأرضُ لذي الخرطوم \ كي نستريحَ من أذى الغشومِ، فصاحت الأرانبُ الغوالي \هذا أضرُّ من أبي الأهوال، ووثبَ الثاني فقال إني\ أعهدُ في الثعلبِ شيخَ الفنِّ، فلندعه يمُدّنا بحكمتهِ \ ويأخذ إثنينِ جزاءَ خدمتهِ، فقيلَ لا يا صاحبَ السمُوِّ \لا يُدفعُ العدوُّ بالعدوّ، وإنتُدِبَ الثالثُ للكلامِ \ فقال يا معاشرَ الأقوام، إجتمعوا فالإجتماعِ قوّةْ \ ثم إحفروا على الطريق هُوَّةْ، يهوى إليها الفيلُ في مرورِه \ فنسترحُ الدهرَ من شرورِه، ثم يقولُ الجيلُ بعدَ الجيلِ \ قد أكلَ الأرنبُ عقلَ الفيلِ، فاستصوبوا مقالهُ واستحسنوا \ وعملوا من فورهم فأحسنوا، وهلكَ الفيلُ الرفيعُ الشّانِ \ فأمستِ الأمَّةُ في أمانِ، وأقبلتْ لصاحبِ التدبيرِ\ ساعيةً بالتاجِ والسريرِ، فقال مهلا يا بني الأوطانِ \ إنّ محلّى لَهُو المحلُّ الثاني، فصاحبُ الصّوتِ القويِّ الغالبِ \ هو منْ قد دعا يا معشرَ الأرانبِ.

 

هذه الكلماتُ الموزونة بميزان الحكمة العالية هى ما يجب التوجه بها إلى كل مصرى فى هذه اللحظة التاريخية من حياة مصر.  فصاحب المحلّ الأول ليس بالتأكيد هو السلطان – مباركا كان أو غير ذلك - ولا هو الداعى لتخليص البلاد من الكابوس المحيق بها، ولا هو حتى من عمل بالفعل وضحى بالنفيس من أجل خلاصها.  صاحب المحلّ الأول الذى يستحق تاج العرفان والتقدير هو من دعا الناس إلى الإتحاد، فالإتحاد قوة الضعاف كما قال أمير الشعراء.  وهنا نتوقف عن خطاب المشاعر لنولج حثيثا فى خطاب العقل تأسيسا على ما ورد القصة.

 

بأى معنى يكون الاتحاد؟  تأمل أيها القارئ الفاضل قول الأرنب اللبيب الذى أذهبَ جلَّ صوفهِ التَّجريب: إتَّحدوا ضدَّ العدوِّ الجافي.  فالإتحاد هنا مقصده الخلاص من ذلك العدو.  وبالتالى فإن تحديد العدو هو أوّل المهام، وهو مناط الإتحاد.  وإذا لم يكن هذا العدو ماثلا بوضوح فى عقول الناس فقد يتحدوا لإزالة عدو ظاهر، لكنهم قد يتركوا عدوا مستترا أكثر ضررا.  وهذا أول الدرس: القدرة على تمييز العدو الحقيقى.

 

وخير شاهد على ضرر فقدان هذه القدرة هو ما حدث للمصريين فى القرن الفائت عندما إتحدوا على تخليص مصر من المحتل الأجنبى.  فاتهم حينذاك أن المحتل كان هو العدو الظاهر أما العدو المستتر فقد كان الإستبداد مع القابلية للإستعباد.  وهكذا ظل هذا العدو حياً لأن المصريين لم يتحدوا للقضاء عليه، ومَهدّ الإستبداد الطريق لإحتلال جديد: كان هذه المرّة إحتلال العسكر المصريين لعقول ونفوس الناس، بعدما دام إحتلال العسكر الأجانب لأراضى وثروات الناس لعقود من السنين.

 

ثم انفجرت ثورة مصر العظيمة فى يناير، ونجحت - بفضل الله ثم بتضحيات الأبطال - فى القضاء على الإستبداد. اتحد المصريون وحفروا للمستبد هوّة فى الطريق فهوى فيها واستراحوا من شروره.  لكن لا يزال هناك عدو جافى ناشطا متربصا بنا.  هذا العدو الذى يجب على المصريين بجميع فصائلهم الإتحاد ضده اليوم هو الكيان الصهيونى والإدارة الأميركية الخاضعة بالكامل لنفوذه واللذان أحكما الخناق على أى محاولة لنهضة مصر. مسيرة نهضة مصر لن تتقدم إذا لم يتحد المصريون ضد هذا العدو الجافى.

 

ثم دعنا نعود إلى سياق القصة ونتأمل عملية انتخاب المندوبين الثلاثة من معشر الأرانب الذين سيدلون بآرائهم لحل مشكلتهم مع الفيل الطاغية.  نلاحظ مبدئيا أن الإنتخاب لم يكن على أساس العُمْر أو وجاهة النسب أو العزوة القبلية أو القرب من بيت السلطان، وإنما كان على أساس "كمال العقل"، وهذه فضيلة.  لكن المهم هنا أيضا هو ملاحظة التباين فى رؤية المندوبين الثلاثة للحل ثم ردود أفعال جموع الأرانب لهذا التباين، وفى هذا درس آخر.

 

اقترح أولّ المندوبين أن تُتْركَ الأرض للفيل لكى تستريح الأرانب من أذاه.  لكن هذا الاقتراح لم يلق قبولا فى مجتمع الأرانب، فقد رفضته الأرانبُ الغواليِ بقولها "هذا أضر من أبى الأهوال".  وأميل إلى القول بأن مثل هذا الإقتراح كان مدار رد فعل المصريين للظلم قبل الثورة. لكن الأمر إخلتف تماما بعد الثورة فقد أصبح بصر المصريين -  مثل الأرانب الغوالى – حديدا: يرفضون الظلم ويصرون على إستعادة حقوقهم (إنت تمشى – مش حنمشى).

 

ثم اقترح ثاني المندوبين بأن يعهدوا بإبتكار الحل للثعلب اللئيم، وقد قوبل هذا الاقتراح  أيضا بالرفض على أساس أنه "لا يُدفعُ العدوُّ بالعدوّ".  وفى هذا تنبيه للمصريين بأن إستبدال عهد مبارك بعهد آخر تظل فيه "أوراق اللعبة" فى يد الأميركان لا يعدوا عن كونه إستبدال عدوّ بعدوّ.  فالثعلب الأميركى لن يأتى بالديموقراطية ولا بالتنمية الإقتصادية لمصر.      

 

ثم يأتى اقتراح المندوب الأرنبى الثالث (صاحب التدبير)الذى تضمّن أن يحفر الأرانب مجتمعين حفرة على الطريق يهوى إليها الفيلُ في مروره.  وقد فعلوا وتم لهم ما أرادوا وأمستِ الأمَّةُ في أمان.

 

لقد بدأ معشر الأرانب إجتماعهم باحثين عن حل لمشكلة الفيل الذى مزقهم تمزيقا، ثم اختلفوا فى إقتراحاتهم، ومع ذلك لم يؤدى إختلافهم إلى خصومة مستنكرة تقضى على فكرة الإجتماع من أساسه.  فلم نجد أرنبا يتهم نائبه الذى إقترح أن " تُتْركَ الأرض للفيل لكى نستريح من أذاه" بالجُبن أو بالتحالف مع الفيل الشيطان، ثم يترك الإجتماع غاضبا وينصب العداء للنائب بقية العمر!  كما لم نجد أرنبا يتهم النائب الثانى الذى إقترح أن يتعهدوا بالحل للثعلب اللئيم بالعمالة للخارج (يعنى لعالم الثعالب).  لم يتهمه أحد بأنه أرنبا ثعلبيا أو مُتَـثعلبا.  بالعكس فقد أقرّ الجميع بوطنيته الأرنبيّة ونادوه بـ "يا صاحبَ السمُوّ" قائلين فى نصح رقيق "لا يُدفعُ العدوُّ بالعدو".

 

أما الأرنب النائب النصوح الثالث الذى استصوبت جموع الأرانب مقاله وعملت به فأحسنت فلم يفتش أحد عن خلفيته فى صدد الحكم على فكرته.  لم يرفض أحد فكرته على خلفية أنه أرنباً ذو ميول إخوانية أرنبية مثلا، أو أنه أرنبا قبطيا أو يساريا أو أنه كان مؤيدا للأرنب الناصر، إلى آخر هذه التصنيفات.  كان الحكم على الفكرة دون اعتبار للإنتماء العائلى أو الأيديولوجى الأرنبى.

  

لقد أفرزت ثورة مصر تباينا شديداً في الآراء والمواقف، وهذا أمر طبيعى أن يحدث بين أكثر من ثمانين مليون مواطن، لكن الخطر أن تتسع شُقّة هذا الإختلاف لتؤدى - لا قدّر الله – إلى تفتيت الأمة. لذا تبدو الحاجة ماسّة فى هذا الوقت إلى التأكيد على معاني الإتحاد والإئتلاف الوطنى.

 

إن الاتحاد ليس معناه بالضرورة أن يكون المطروح على الناس رأيا واحدا، أو حتى أن يتفق الناس على رؤية واحدة. وللأسف فقد سارت كل تجارب الحكم فى العالم العربى على هذا المسار الفاشل: يعنى الإتحاد حول رؤية وقرار "الزعيم".  الوحدة بشرط أن أكون "أنا الزعيم"، أو الديموقراطية بشرط أن أظل "أنا كبير العائلة".  هذا ليس إتحادا بل إنه إستغفالا للجماهير لأنه ببساطة ضد فطرة البشر،  فالمظهر الحقيقى للإتحاد هو تعدد الآراء وحرية طرحها ومناقشتها دون الإخلال بالرابطة الأساسية التى يتوحد الجميع حولها، وهى الرابطة الوطنية التى تجمع كل من يعيش تحت سماء الوطن.  الإتحاد معناه احترام رأى كل مواطن ومناقشته دون التجنى على نيته. يعنى لا تهديد ولا تخوين.

 

الاتحاد يدعم التعددية ولا ينفيها، وفى ظل التعددية تتفتّح إبداعات الأمة وتخطو على طريق النصر والقوّة.  وهذا ما تأكد فى قصة أمّة الأرانب.  فما كان أن يتحقق لهم الإنتصار على الفيل إذا إنحصر قرار مواجهته فى دائرة معارضة أرنبية بعينها دون مشاركة بقية فصائل أمة الأرانب.  وهذه هى العبرة الثاقبة فى القصة.  العبرة هنا أن نجاحهم لم يكن بالضبط بسبب الفكرة العبقرية التى أفضت إلى القضاء على الفيل (إحفروا على الطريق هُوَّةْ )، لكنها كانت فى دعوة الأرنب اللبيب للإتحاد والتفكير والعمل الجماعى (.إتَّحدوا ضدَّ العدوِّ الجافي \ فالإتحادُ قوّةُ الضِّعافِ).

 

وأخيرا يجب التنبيه إلى رأس الحكمة التى وردت على لسان الأرنب صاحب التدبير الذى أطاح بالفيل (وهو الذى إقترح حفر الحفرة) عندما أرادت الأرانب تتويجه، فقال إن صاحب المحل الأول الذى يستحق التاج هو من دعا الناس إلى الإتحاد وليس من أتى بالتدبير.  الإتحاد هو الذى أفرز التدبير الصائب، وبالتالى فهو الأولى بالتتويج.

 

أحمد لله الذى مدّ فى عمرى لأشهد لحظة إتحاد المصريين يوم انتصارهم وأرى تاج الإتحاد على رأس كل مواطن فى يوم جمعة النصر. إذا دامت هذه الروح فسيكون كل مصرى فى المحل الأول: رئيسا حقيقيا لمصر الحرّة. 



عدد الزيارات : 472

Share

مقالات ذات صلة :
  • حوار أبكاني

  • قصة كفاح

  • رسالة إلى الشعب الفلسطيني

  • نكـبة فلسـطـين وصمـة في جـبين الإنسانيـة

  • أغيثوا أقصانا..... هنا مسرى الرسول و مشى المسيح وأمه البتول

  • رسالة من فتاة فلسطينية

  • هل ستشرق الشمس؟

  • الخطة الصهيونية للشرق الأوسط ....واجبنا أن ننتبه لهم

  • جواد بلا فارس

  • رسمة أقوى من ألف كلمة

  • شجر الليمون

  • مرحبا باراك أوباما ... وداعا مايكل جاكسون

  • رسالة عزاء إلى أسرة الدكتورة مروة الشربيني يرحمها الله

  • خطاب مفتوح إلى الخارجية المصرية

  • سر مدينة أورشليم

  • فلافل ( طعمية ) حمص شام.. أكلاتنا وليس لإسرائيل منها نصيب

  • لا أمان لهم

  • إلـــــــــــــــــــــــــى مـــــــــــــتــــــــــــــــى؟!

  • جولة في الحرم الإبراهيمي

  • الأساطير المؤسسة للسياسات الإسرائيلية

  • كنيس خرابهم

  • خوفنا يحاصر غزة

  • أياد تعمل بليل و القدس تضيع

  • لماذا تطاولوا علينا؟

  • مشاهد تراجيدية ذات مدلولات خطيرة

  • صرخة في الأرض العربية... الظلم مرتعه وخيم

  • يوم فاصل في تاريخ مصر.. 25 يناير 2011

  • يوميات ما بعد الثورة

  • يوميات ما بعد الثورة2_كريم ...صرخة غضب

  • كيف نفهم الاعتراف بالدولة الفلسطينية؟

  • رسالة من الثوار العرب للصهاينة

  • ثورة أم صحوة؟؟

  • وعادت مصر للمصريين

  • المزيد.......
    التعليقات :



    الاسم
    البريد الالكتروني
    العنوان 
    التعليق